لم يكن اعلان الاتفاق الروسي الايراني على تزويد روسيا لإيران بالوقود النووي والتزام روسيا باستمرار دعمها لبناء وحدة نووية جديدة في مفاعل «بوشهر» الايراني، لم يكن مجرد إعلان تعاون فني وتقني بين دولتين فقط بل كان بمثابة إعلان سياسي للدولتين في ظل العد العكسي الذي بدأ في المنطقة لحرب محتملة على العراق. وتحديدا البدء بالتجهيزات الفعلية العسكرية والاعداد لخريطة سياسية جديدة له. فكان مهما لكل من موسكو وطهران أن توجها الرسائل إلى الولايات المتحدة بأنهما موجودتان وان الاقليم ليس مباحا لها وحدها وأن على الجميع ان يضع في حسابات المعادلة الجديدة القوى الاقليمية التي ترتبط مصالحها وأمنها القومي بقواعد الجيرة الجغرافية والمصالح السياسية والاقتصادية.
اعلان الاتفاق جاء بشكل بيان سياسي عاجل، فوزير الطاقة النووية الروسي «ألكسندر روميانتسيف» أعلن بعد إنتهاء زيارته طهران أنه توصل مع المسئولين الايرانيين إلى اتفاق على تزويد موسكو لطهران بالوقود النووي وأن إيران ستعيد الوقود بعد استخدامه. وأن الاتفاق سيتم توقيعه خلال شهر. هذا الاعلان يأتي بالتزامن مع اتهامات واشنطن لايران بالسعي الى تطوير سلاح نووي بمساعدة روسية وفي وقت توزع فيه الولايات المتحدة الاتهامات في عدة اتجاهات من كوريا الشمالية الى إيران في موازاة تحضيراتها لعمل عسكري ضد العراق مما كان يستلزم مداراة سياسية. إلا ان رد روسيا وإيران كان عبر إعلان مبكر جدا الاتفاق الذي لم يتم توقيعه بعد. وعلى رغم الكلام الروسي الايراني من ان التعاون بين البلدين يتم في إطار القوانين الدولية وأنه ذو طابع «مدني محض». فهذا الشكل التقليدي ليس المداراة السياسية ولا ينفي عن الاعلان صفته وأهدافه السياسية. ويذكر ان إيران بمساعدة روسيا تقوم ببناء وحدة نووية في مفاعل «بوشهر» يفترض أن يتم إنجازها خلال منتصف العام 2004م بينما من المقرر أن يضع الخبراء الروس الوقود النووي في الوحدة خلال هذا الشهر الجاري (يناير/كانون الثاني 2003) ويعمل في المفاعل الايراني حوالى 1200 خبير، 60 في المئة منهم من روسيا و40 في المئة علماء من أوكرانيا وتم إنجاز قرابة 70 في المئة من أعمال الوحدة الجديدة. ووفق تصريحات وزير الطاقة الروسي فان عددا من الخبراء الروس سينضمون الى فرق العمل خلال هذا الاسبوع من أجل إنجاز جسم المحرك والتوربين الرئيسي فيه.
القراءة المتأنية لهذا الاعلان وللأداء السياسي الايراني تكشف وبوضوح أن إيران حريصة على تأكيد أن أي تحركات في جوارها الجغرافي يجب ان تتم بالتشاور معها، وهذا ما بدا واضحا من خلال حرصها على حضورها البارز في مؤتمر المعارضة العراقية الأخير الذي عقد في لندن (13 ديسمبر/كانون الاول) اذ عملت في أروقة المؤتمر بفاعلية عبر اللقاءات الثنائية التي عقدت مع معظم فصائل المعارضة ورموزها التي دفعت الأمور الى فكرة الفيدراليات في العراق. التحرك الايراني في هذا الاتجاه يعيد الى الاذهان الاداء الايراني السياسي في ذروة الازمة الافغانية سواء في مرحلة المفاوضات بين الفصائل الافغانية من خلال دعمها الشيعة الافغان أو من خلال وجود الزعيم قلب الدين حكمتيار في تلك المرحلة في طهران أو في مؤتمر بون الذي أسفر عن تكريس سلطة الرئيس «حامد قرضاي» وتقسيم مناطق نفوذ القبائل في افغانستان ونسب التمثيل النسبي في الحكومة الافغانية. هذا الاداء الايراني الواضح في أفغانستان كان يقول ببساطة أنه إن لم يتم وضع المصالح الايرانية في الاعتبار فان طهران قادرة على إفشال أي مشروع للتسوية. ورسالة أفغانستان لا تختلف كثيرا عن رسالة العراق كما ان الرهان على إيران باعتبارها قوة إقليمية رهان قديم من الغرب والكثير من الدراسات الاميركية والبريطانية ترى أن إيران مؤهلة للعب دور إقليمي أكثر أهمية للبلدين (أميركا وبريطانيا) من القوى الاقليمية التقليدية في المنطقة لاعتبارات مدنية وحضارية كثيرة. وعلى رغم ان إيران دولة إسلامية فانها ليست عربية وإن كانت مطلة بحكم جغرافية هضبتها على المنطقة العربية وهي بحكم تعداد سكانها ومستويات التعليم المتقدمة فيها قادرة على ان تكون أكثر من مجرد جار جغرافي. والثابت ان علاقات إيران مع بريطانيا والولايات المتحدة في تحسن مستمر والزيارات البريطانية لطهران التي قادها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو، مهدت الطريق الى ما قيل أنه «أوتستراد طهران - واشنطن». وقد سئل وزير الخارجية الايراني كمال خرازي حديثا خلال زيارته إحدى العواصم العربية عما يقال عن اتفاق أميركي إيراني إلا انه نفى ولكنه أكد أن الاتصالات مع واشنطن مستمرة ولكنها لم تسفر عن اتفاق وهي تتم عبر وسيط ثالث وهو (الوسيط) يمثل «قناة دافئة».
وبغض النظر عن السيناريوهات الاميركية تجاه العراق وموعد بدء العمليات العسكرية ومداها وما بعد الضربة، فإن المشهد السياسي يضع إيران في قلب المعادلة باعتبارها طرفا يدير أوراقه السياسية وأدواته كي لا يتم تجاهله كما يستثمر تحالفاته وصداقاته وإمكاناته وما يمكن ان يقدمه كي يصبح شريكا في المصالح وحماية أمنه.
هذه الرغبة الايرانية توازيها رغبة وإرادة روسية، فالروس حريصون على العودة الى المنطقة بعد سنوات الانكفاء وخسارة مصالح كثيرة في العالم على رغم انشغالاتهم الداخلية والخارجية وخصوصا في ملف الشيشان الذي تدعمه جهات كثيرة لإبقاء موسكو مشغولة بهمومها ولا تتطلع الى ما وراء الحدود
العدد 121 - السبت 04 يناير 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1423هـ