بالتأكيد أن درجة محاسبة أي إنسان على ما يقوله أو يفعله لابد أن تتم وفق معايير كثيرة، لا يستوي المجنون مع العاقل، ولا يستوي الطفل مع الراشد، بل لا يستوي من هو في سن العشرين مع من هو في سن الأربعين، لا يستوي الجاهل مع العالم، لا يستوي من مر بالتجارب وخبرها مع من ليست له تجربة أو خبرة. في السبعينات من القرن الماضي عندما كانت قوى اليسار في البحرين محصورة بين الجبهة الشعبية وجبهة التحرير الوطني، وهما القوتان السياسيتان الأساسيتان الفاعلتان على الساحة الوطنية، كانت العلاقات بين هذين الفصيلين يشوبها الكثير من عناصر الخلاف غير الواقعية وغير المقبولة، فلو قمنا بتقييم تلك الخلافات لا نجد لها ما يبررها، بل ان العاقل منا يستهجن وجودها ويستهجن فعلها في العلاقات غير السوية بينهما. ومما يؤسف له أن الكثيرين من المنتمين لهاتين القوتين لايزالون يعيشون الماضي بكل ما فيه من سوء، دونما استفادة، مازال البعض يعيش صنماً يحتاج إلى تكسير، ليس لديه شعور أو إحساس بأن العالم قد تغير من حوله، فلم تعد قوى المعسكر الاشتراكي موجودة، وليس لدينا ما نتصارع حوله في صوغ بيان يتضمن على رأسه الاتحاد السوفياتي. بعض كتابنا ممن يفترض فيهم العقل والصدق مع النفس ومع القراء، كثيراً ما يصيبهم الشطط والزلل. مازالوا مثلهم للأسف مثل الكثيرين يعيشون الماضي في جوانبه الكريهة والحاقدة. حتى عندما يتحدثون عن حوادث وطنية يستقون الصدق من جهاز القمع وعلى رأسه هندرسون، الذي لم يفرّق بين من هو منتم لجبهة التحرير الوطني البحرانية أو منتم إلى الجبهة الشعبية، ويكذبون قوى وطنية مناضلة. قبل حوالي ثلاثين سنة من الآن تم اغتيال الشهيد عبدالله المدني، رئيس تحرير مجلة المواقف، عندها قام جهاز هندرسون بحملة اعتقالات واسعة شملت المناضلين من جبهة التحرير الوطني البحرانية والجبهة الشعبية في البحرين، وحاول هندرسون وجهازه القمعي الصاق تهمة قتل الشهيد المدني بالجبهة الشعبية في البحرين، وتحت وطأة التعذيب الشديد استشهد المناضل محمد غلوم بوجيري من الجبهة الشعبية، وبعده بأيام قلائل استشهد المناضل الشاعر سعيد العويناتي من جبهة التحرير الوطني البحرانية، وكاد آخرون أن يستشهدوا. وبصفتي أحد المنتمين للجبهة الشعبية في البحرين، وممن تعرّضوا للتعذيب الشديد في محاولة من هندرسون لأن يحصل على توقيع مني بأن الجبهة الشعبية هي من خطّط وأعطى التعليمات لاغتيال المرحوم عبدالله المدني، أقول كان الشهيد محمد بوجيري يتقاسم معي غرفة التعذيب نفسها، ولم يستطع الجلادون أن ينالوا منا ولم يتمكنوا من تلبيسنا هذه التهمة الشنيعة. هناك غرف تعذيب أخرى ضمت المناضل عبدالله مطيويع، تعرّض فيها لأبشع أنواع التعذيب ولم يستطيعوا أن ينالوا من إرادته ومن صلابته. الآن وبعد مرور قرابة ثلاثين سنة على جريمة قتل الشهيد عبدالله المدني واستشهاد المناضلين محمد بوجيري وسعيد العويناتي، ينبري بعض كتابنا الأفاضل، وفي محاولة منهم لدق أسفين في العلاقة بين التيار الإسلامي الشيعي من جهة وبين جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) التي يتشكل جسمها الغالب من عناصر كانت منتمية للجبهة الشعبية في البحرين، من دون تحكيم ضمائرهم وشعورهم الوطني، ويغمزون ويلمزون محرّضين التيار الاسلامي الشيعي قائلين إن من قتل الشهيد المدني هم من تتحالفون معهم اليوم، وصل الأمر في محاولات دق الأسفين في العلاقة بين الطرف الاسلامي الشيعي والقوى الأخرى عبر تحريض الطرف الاسلامي الشيعي ومناداته بأن يتحالف مع قوى الاسلام السياسي السني. نحن ندرك ونتفهم وجوب ترشيد عقلنا وتفكيرنا ونبذ أساليب وصراعات الماضي، وننادي بتعميق العلاقة بين المنبر الديمقراطي التقدمي وجمعية العمل الوطني الديمقراطي، وإعطاء هذه العلاقة أولوية، وقد نختلف في ذلك مع الكثيرين من الأخوة في كلتا الجمعيتين، لكن ذلك لا يعني أن يكون تعميق هذه العلاقة على حسابات وطنية أخرى، فلا نعتقد أنه من المفيد للصف الوطني الدخول في صراعات مع التيارات الاسلامية، مع الاحتفاظ بحقنا في أن نختلف معها في الكثير من المسائل المناقضة لهويتنا ورؤيتنا. أقول لمن كتب قصة اغتيال الشهيد عبدالله المدني، واستقى قصة الاغتيال من هندرسون، قائلاً: (فقد اعترف المتهم الثاني الذي كان يحمل اسماً حركياً باسم حسن، أن قائد خليته المتهم أحمد مكي واسمه الحركي جاسم، وأن الأخير أخبره أن لديه أوامر من قيادة الجبهة الشعبية لاغتيال عبدالله المدني، وأنه وافق على اختيار محمد طاهر لمشاركتنا في عملية الاغتيال، كما أكدت الاعترافات أيضاً أن عبدالأمير منصور، أحد قياديي الجبهة الشعبية قد انضم ومجموعة أخرى إلى جمعية التوعية الإسلامية بقصد التجسس عليها). وأقول للآخر الذي كتب، يقول: (وهكذا أصبح اليسار «العلماني» المتهم سابقاً بالكفر والإلحاد وبمسئوليته التنظيمية عن اغتيال أحد رموز الإسلام السياسي الشيعي في أواسط سبعينات القرن الماضي.... الخ)، أقول لهما: أيهما أصدق لديكما هندرسون أم نحن أبناء الوطن؟ أقول إن هندرسون لم يستطع تنفيذ ما خطط له وعجز عن إدانة أحمد مكي وعبدالأمير منصور، حتى من قبل قضاة كانوا في الكثير من المسائل ألعوبة لدى هندرسون، وأقول إن عبدالأمير منصور وقتها وقبل اغتيال المدني كان صادقاً مع نفسه ومع رؤيته وقناعاته، إذ انه قبل اغتيال الشهيد المدني بفترة تخلى عن التزاماته التنظيمية والفكرية وأصبح يتبنى الاسلام في كل قناعاته. من حق من يرى المشاركة في المجلس النيابي أن ينتقد رؤية من قاطع الانتخابات، من حقه أن ينتقد التحالفات، من حقه أن يروج لرؤيته ووجهة نظره، لكن ليس من حقه الترويج للحقد والكراهية عبر تبني اتهامات باطلة لفقها وهيأ لها سيء الصيت هندرسون. إن من قتل بوجيري والعويناتي وجميل العلي والشهداء كافة هو نفسه من قتل الشهيد المدني، فهم يقتلون القتيل ويمشون في جنازته. نطالب الآن على رغم مرور ثلاثين سنة على جريمة اغتيال الشهيد المدني، بفتح الملفات مجدداً وبالمحاكمة مجدداً، إننا نتهم هندرسون بقتل المدني وقتل بوجيري والعويناتي وجميل العلي والعشرات من شهداء شعبنا. إنها شهادةٌ للتاريخ وليست شهادةً مزورةً صادرةً من هندرسون. وعلى من يتولى الكتابة أن يكون صادقاً وأميناً مع نفسه أولاً ومن ثم مع القراء ثانياً. حريٌ بالأخوة في المنبر الديمقراطي التقدمي الذين هم استمرار لنضالات جبهة التحرير الوطني البحرانية أن يعلنوا رؤيتهم الواضحة في جريمة اغتيال الشهيد المدني، إذ انني أرى أنه لابد أن يكون لديهم تحليل ورؤية وبعض من المعلومات، وخصوصاً أن المنبر الديمقراطي التقدمي يحتفل في احتفالية مشتركة مع جمعية العمل الوطني الديمقراطي باستشهاد المناضلين العويناتي وبوجيري، حتى يصاغ تاريخنا الوطني من قبلنا وليس من قبل هندرسون. مطلوبٌ أن نرشد تفكيرنا
العدد 1209 - الثلثاء 27 ديسمبر 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1426هـ