قد يكون مخجلاً حقاً أن يتحدث الإنسان بصراحة متناهية، يقول ما يود أن يقول في وجه كل فرد من دون خوف أو وجل، فيقول للأحمق أحمق، وللجاهل جاهل ولقليل الأدب قليل أدب. لكن ما العمل إذا كانت هذه الأمور مخجلة، وخصوصاً بالنسبة إلى العاقل الذي يعرف أن الحمق لا يمكن أن يداوى لكونه غريزة في الإنسان لا ينفع معها أي دواء. وهو «ليس له حد» كما يقول زعيم المعتزلة إبراهيم النظام. أما الجهل فهو أنواع: جهل مستأصل متوارث لا يمكن علاجه إلاّ بالاستئصال من الجذور وهذا يشكل خطراً في أحايين كثيرة» وجهل يمكن علاجه على أسس معرفية. هل نقف عن التحدث بصراحة فقط كون الحديث مخجلاً ولا يروق للبعض؟ طبعاً كلاً بالنسبة إليّ شخصياً. ولكن، لماذا يكون الإنسان خجولاً من التحدث بصراحة في فترة وجوده جسدياً بين بشر هم أكثر من موتى، بل ومضت على موتهم قرون كثيرة وتحللت أجسادهم وأفكارهم إن كان لهم أية أفكار تذكر بين بقية الأمم؟ لا يوجد جواب شاف لهذا السؤال المعضلة سوى القول إن الحديث بصراحة متناهية، يجلب معه بعض الأذى لأشخاص يأتي الحديث عنهم ضمن الحديث بصراحة، وهو ليس أذى جسدياً بكل تأكيد فهذا النوع من الأذى يهون بين مختلف أشكال الأذى التي جربها الإنسان منذ عرف أنواع الأذى، وأخطرها الأذى النفسي. ووعدت نفسي وأرجو أن أوفق في انجاز هذا الوعد حين الحديث بصراحة، وهو عدم التحدث عن أشخاص بقدر الحديث عن أفكار وبصراحة متناهية. في البدء، يجب أن يكون في علم القارئ أن العنوان: «حديث لوجيزتي» يأخذ بالمعنى الفرنسي للمفردة لوجيزتك وليس بالمعنى الإنجليزي. الحديث الأول إسلامي، في بداية الدعوة الإسلامية، وكانت دعوة سرية يؤمن بها أفراد قلائل يعيشون في صحراء شحيحة الموارد. كانت تلك المجموعة شديدة الإيمان بها. صاحب الدعوة المرسل محمد بن عبدالله (ص) وزوجته خديجة بنت خويلد (رض) امرأة آمنت بما جاء به زوجها إيماناً مطلقاً كما جاء في تفاصيل الحدث. رجل عظيم وراءه امرأة عظيمة. توسعت دائرة المؤمنين بعد ذلك وانتشرت مبادئ الإسلام التي آمن بها الرجال والنساء: رفع شأن المرأة والعمل على منع وأدها في التراب وهي حية ترزق وسلب حقوقها أو التلاعب بمستقبلها. المساواة بين البشر إذ لا سيد وعبد ولا عربي وأعجمي. انتشال الناس من الضياع في متاهات الفسق والمجون واللامبالاة والظلم والتعسف. التكافل ورعاية الفقراء واليتامى والمحتاجين... وهناك أمور كثيرة غيرها بالأهمية ذاتها. خلال 40 عاماً من حياة الرسول العربي العظيم تحققت جميع هذه المبادئ على أرض الواقع: لم يعد أحد من الرجال يئد طفلته. انتفت العبودية بين الناس وأصبح الناس أسياد أنفسهم. لم يعد الناس غير مكترثين، أو سكارى يعبدون أصناماً بأشكالها الحية أو الجامدة، ولم يعد هناك ربا أو فجور. أصبح للحياة معنى آخر. 40 عاماً توحد فيها الأغنياء والفقراء، السادة والعبيد، الرجل والمرأة، العربي والأعجمي. رجل وبعض من الرجال والنساء صنعوا حياة جديدة وانطلقوا بها في أرجاء الدنيا. اليوم ونحن نعيش بعد ما يزيد على 1400 سنة على رحيل ذلك الرجل العظيم، لانزال نكبل المرأة وندفنها حية فكراً ونشاطاً وهي بيننا، لا تعدو عن كونها أداة للرجل يملكها ويفعل بها ما شاء إلا فيما ندر. بعد تلك القرون مازال الكثيرون منا ينظرون إلى الناس باعتبارهم عبيداً ملكاً لهم يفعلون بهم ما يشاؤون، يشترونهم أو يبيعون، بطرق يصعب إحصاؤها، ومازال للأسف الشديد في دول إسلامية كثيرة، ينظر إلى الإنسان الأسود اللون نظرة دونية. بعد مضي تلك السنوات الأربعين القصار لايزال كثيرون لم يتحرروا من المجون ومن العربدة والعمل على وأد مستقبل الإنسان بأشكال متعددة. خلال تلك السنوات الطوال الماضية، خرج رجال عظماء لجعل تلك المبادئ السامية الأولى حقيقة واقعة غير أنهم جابهوا عتاة أكثر عتواً من قريش ورجالاتها. فقد أولئك الرجال حياتهم ثمنا لذلك. لنأخذ هذا المثل العظيم، الحسين بن علي (ع) لنرى السبب الذي خرج من أجله، فهو يكتب لمعاوية: «ألست القاتل حجراً بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة»، و«أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال». ثم يضيف الحسين بن علي قائلاً لمعاوية بن أبي سفيان: «أولست من سلط زياد بن سمية على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك». ثم يضيف «ألست الكاتب إليه في شأن أهل اليمن أن اقتل كل من كان على دين علي، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودينُ عليّ هو دينُ ابن عمه (محمد)». وفي ختام خطابه، يكتب الحسين بن علي قائلاَ: «وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني ولأمة محمد (ص) أفضل من أن أجاهدك». ثم انظروا بعد ذلك ماذا حدث للحسين وانظروا تاريخ كل المناضلين الشرفاء من كل الجماعات الإسلامية عبر تاريخ تلك السنوات فستجدون فيها ما يشيب له الرضيع. يقول كثيرون ممن يظهرون الاعتقاد بتلك المبادئ الأولى إن دستورهم القرآن الكريم، وهو دستور إلهي، بمعنى أنه دستور لا يمكن بأية حال من الأحوال خرقه وعدم تطبيقه، ولكن لسبب ما وعلى طوال تلك السنوات التي عاشها الناس بعد 40 سنة الأولى، يرينا التاريخ كم هم أولئك الذين لم يأخذوا بما جاء في ذلك الدستور وخرقوا بنوده مرة تلو مرة، وأهم تلك البنود التي خرقوها: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة: 32). فما نرى بيننا اليوم من سلوك يشي بأن الجماعات لا تأخذ بهذا البند الدستوري العظيم، فالقتل والاقتتال عند من يدعي الإسلام عظيم وعلى أشده فيما بينهم، ناهيك عن الاقتتال مع غيرهم من كفار أو غير كفار. إن في المجتمعات الإسلامية اليوم عوزاً وفقراً شديدين، وهذا العوز والفقر ليس من الصعب أبداً نفيهما إذا ما عاد التكافل المنظم الذي لا يسد رمق الجوع فقط، بل هو إلى جانب سد رمق الجوع، يزيل الجهل ويرتقي بالمستوى التعليمي لتلك الفئات المعوزة، لتكون قادرة على العمل على توفير لقمة عيشها من خلال إصلاح الأرض وإصلاح بيئة العمل وإصلاح بيئة السكن الملائمة للعيش البشري. تمعنوا في هذه الآية: «وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (النحل: 112)، هل هي إشارة إلى أمة الإسلام؟ المسجد مدرسة الإسلام الأولى، معطل بشكل مأسوي، فبعد أن كان مكاناً يتعلم فيه الإنسان أصول اللغة والتجارة وفنون الحرب والسياسة والخطابة والرياضة النفسية والجسدية، أضحى في زماننا يتوخى فيه أن يتبوأ مركز ثقل علمي كبير، مركزاً للعن والسب والتكفير، إلى جانب أشياء أخرى، الإنسان المسلم اليوم بحاجة إلى المعرفة الحقيقية، التي تنتشله من الخوض في أمور لا تسْمِنُ وَلا تُغْنِي مِن جُوع ، وعوضاً عن ذلك، الخوض في صنع مستقبل الإنسان المطمئن العاقل، الذي يضع لبنة في مدماك السلم البشري الذي آن لنا أن نحياه.
زبدة الكلام
قال الحسين بن علي (ع): «ورفع الله بالإسلام الخسيسة، ووضع به النقيصة، فلا لوم على امرئ مسلم في أمر مأثم، وإنما اللوم لوم الجاهلية». وللحديث صلة.
العدد 1197 - الخميس 15 ديسمبر 2005م الموافق 14 ذي القعدة 1426هـ