يردد اللبناني ما يقوله السوري وينقل البحريني ما يشيعه العراقي ويقر السوداني بما يتفوه به المصري ويكرره العربي الآخر أينما توطن وأقام. ذلك أن جنبات تاريخ مجتمعاتنا تضج بموروث حضاري اتسم على الدوام بالانفتاح والتسامح واحترام الرأي الآخر. وما من شك في أن قارئ التاريخ يلحظ أثر ذلك على هذه المجتمعات منفردة، في إطار محيطها الايكولوجي، الذي كان سبباً في نشأة حضارات وادي النيل، وما بين النهرين، والحضارة الدلمونية وغيرها من الحضارات التي عانق منتجها المعرفي والثقافي تخوم المجد، أو مجتمعة في إطار الدولة الإسلامية التي يختزن التاريخ ديناميتها وحركتها العمودية والأفقية التي خلقت تواصلاً فكرياً إنسانياً أسهم في إثراء مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية مع حضارات الأمم الأخرى وشكلت تراثاً إنسانياً ليس لأحد الحق في أن يدّعي كليةً امتلاكه ولا التقوّل بكماله أو اكتماله، وكان لجودة الجغرافيا وجودة الطبيعة وكرمها أثر في تعاقـــب حضارات لا يقل الامتــداد الزمني لأحدثها (الحضارة الإسلامية) عن ألف وخمسمئة سنة. ويأتي الاستقرار، كأحد مرتكزات البنية التحتية، على رأس أولويات الضرورة لقيام مثل هذه الحضارات. فالاستقرار لا يثبت ويترسخ إلاّ نتيجة لوجود مجتمع متناسج المفاصل واللحمة، كريم التعالق مع الآخر والاتصال به. مجتمع حفل على الدوام، بوجود المغاير الثقافي والمتمايز العرقي الذي كون على الدوام فسيفساء مجتمعية، هي مفتاح الإبداع وبوابة العطاء الذي تفخر بإنتاجه هذه المجتمعات ويا ليتها تستطيع تطويره وإعادة إنتاجه اليوم.
أين ذهب الانفتاح؟
لكن، الذي لا يتردد بالكثرة التي يتم فيها الحديث عن الماضي هو من أين تفجرت نقائض ذلك الذي اتسمت به المجتمعات العربية وصار الانفتاح تكهفاً وانغلاقاً، واستدار التسامح القهقرى فاسحاً المجال للتعصب والعنف بأن يغيّرا مسلك الإنسان ليغدو شبيهاً بمسلكه قبل أن يتعلم الأبجدية، واستحال احترام الآخر إلى شيء من غطرسة وإلغاء؟ ويلغي بعد أكثر من سبعة آلاف سنة زخماً تسامى بالفعل الحضاري العربي وارتقى شموخاً في تعاطيه مع الأمم المحيطة، ليرتجع بها إلى ما دون السمو الذي سعى الأولون إليه قبل أن يواروا الثرى مكللين بغار الريادة والتميز وسبق الخلود في ذاكرة التاريخ التي، من أسف، نحن أول متعمدي تشويه هذه الذاكرة وتعتيم نقاطها المضيئة عبر ممارسات لا تضيف عليها إلاّ ما يسيء لها وللأجيال اللاحقة و تنسف المتراكم الحضاري، وتعصف بالموروث القيمي وتلغيه، لحساب عصبيات قبلية، إلى الآن، ويا للعجب، لم يتكفل هذا الكم الهائل من التطور الذي لامس كل آفاق الحياة من التأثير فيه بالصورة التي تقنع ما يتردد بأننا أمة حية، أو ما يشي بأننا أحفاد ذلك الذي شيّد صروح الحضارات، وراكم المعرفة. فلابد من أن هناك مقدمات تأسست في السنوات القليلة الماضية قادت إلى هكذا نتائج ستعمل على إعاقة مسيرة الأبناء لسنوات طويلة.
عتمة الاستبداد
فإذا ما أردنا البحث عن تلك المقدمات، ومحاولة الكشف عن أسباب تراجع العرب للدرجة المخيفة من التخلف التي هووا إليها، بداية نقول إن الشرور دائماً تختبئ في عتمة الاستبداد، أياً كان شكل ذلك الاستبداد، سياسياً أم اقتصادياً، فكرياً أم دينياً، ولأن البلدان العربية ابتُليت بحكومات من طراز المستبد السياسي الغارق في يم فساده الاقتصادي، مدع بامتلاك كل مقومات القوة والمنعة لصد عدوّ زرعه في خياله، وينشر بذرته في وسط عموم الناس ليستنبت فكراً قومياً ومفكرين منغمسين في ممارسة لذة تمييع الواقع وأسطرة الماضي لضمان مستقبل محصور في دائرة الذين اغتصبوا السلطة وكيّفوا أدواتها القمعية لإدامة مصالحها سواء بالترغيب عبر التوظيف المناسب لأبواق الإعلام المتعدد الوسائل أو من خلال تضخيم الخوف من المجهول وإظهار العرب بأنهم قوم مستهدفون على الدوام، ما أسهم في تفشي فوبيا الأجنبي، من خلال المناهج التربوية التي أنتجت أجيالاً لا تتقن إلا استظهار ما قامت بحشوه المؤسسة المدرسية، واستيلاد المؤتلف ظناً بأن ذلك يشكل انسجاماً مجتمعياً. ومن جهة ثانية، ما تنتجه آلة الدين السياسي من تدمير للمجتمع المدني عبر منابرها التي باتت حكراً على صوت واحد أحد يلهج، ليل نهار، في وسط مجتمع متدين، بضياع الأمة في مهب التفريط الرسمي بالقيم الإسلامية وتفشي الرذيلة بسبب التراخي في تطبيق الحدود الشرعية واستبدال الشورى بالديمقراطية المستوردة من الغرب، ما نمّى الاستعداد لقبول التفسير المنغلق للنصوص المقدسة، حتى غدا الحديث عن الديمقراطية والحريات الشخصية من الأمور التي بات يتحرج من طرحها المواطن.
ضغوط الاسلام السياسي
وإلى ذلك، يمكن أن نشير إلى ما يمارسه تيار الإسلام السياسي من ضغط لتقليص ما اكتسبه المواطن من حريات شخصية، تصدى لها بشجاعة التيار الليبرالي الناهض برفع شعار «لنا الحق»، الذي يختزل في اعتقادنا الكثير من المعاني، ويشير إلى أن حريتك تنتهي عندما تلامس فيافي حريتي. فالبيئة الاجتماعية صارت مرقداً لاحتضان افرازات ذلك الاستبداد وخصوصاً التعصب والعنف. وحيث إن العنف هو الترجمة السلوكية للتعصب، وهو المُعبّر عن اكتمال الذروة لحالات الاحتقان الاجتماعي، فان المشهد صار يطفح بما يمور به القاع من عدم الثقة والريبة في كل مشروعات السلطات السياسية، فاشتد الاستبداد وبالتالي كان لابد أن تزيد وتيرة العنف لتسربل المتضادين برداء التعصب واتخاذه وسيلة عند كل طرف. أحدهم يريد المحافظة على الواقع والآخر يريد تغييره، وغابت عن المشهد مفاهيم التسامح والحوار واحترام الآخر التي هي من مفاتيح البناء الحقيقية في حزمة المفاهيم الحداثية مثل الديمقراطية، والمواطنة وحقوق الإنسان. ولا نريد أن نشير إلى أمثلة ما، لأن الراهن العربي برمته مثال ساطع مهما اختلفت بلدانه في بعض التفاصيل. فالليبراليون على حد السكين من القطيعة مع الإسلاميين، واليساريون مذاهب تتقاتل على نفوذ غير موجود في الأصل، والإسلاميون يتنازعون بينهم على اقتسام الشارع المحبط من سلوك سياسييه. وهكذا قس على التجمعات السياسية كافة، حتى ليخيل إليك بأن ما أشرنا إليه من حضارة وثقافة في مستهل حديثنا هو من تخيلنا، وليس من صميم ماض أبدعه إنسان هذه الأرض وسوّاه.
أصنام العرب
في اعتقادي، ان الإشكال الذي يعاني منه المجتمعات العربية الراهنة وتشكل إعاقة تحول دون تقدمها إلى الأمام تقع في المسافة بين «الأنا» و«الآخر»، هذا المختلف فكراً وثقافة وديناً ومذهباً، وتأثير كل ذلك على السلوكيات الشخصية، أكان في إطار المجتمع الواحد أو خارجه. وهذه المسافة يمكن ردمها بالحوار والتسامح، إذ لا يمكن أن ينشأ حوار وينجح من دون تسامح، وبالتالي لا يمكن قياس مساحة التسامح إلاّ بين متحاورين. إذ أن هذه المفردة تحمل في ذاتها دلالات انتصار العقل على العاطفة وإخضاعها لمنطقه باتجاه احترام الآخر من حيث المشترك الإنساني في رأيه ومعتقده. وهنا أسوق مثلاً من تراثنا الإنساني علّه يلامس ما أهدف إليه، وهو أن العرب في الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام التي كانت توضع متقاربة في مكان واحد، وكان عبدتها يوجدون في المكان ذاته، وكل يعبد صنمه بما تفرضه عليه قناعاته ويمليه عليه خوفه من المجهول في حرية تامة، من دون تدخل من أولئك الذين يتعبدون في محاذاته. أما نحن فكلنا مؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكننا لا نتسامح في الطريقة التي يتقرب فيها الواحد منا لله، فكل يريد أن تكون طريقته هي الشائعة والمعممة... وبالقوة أيضاً، فهلاّ أدركنا الفرق بين التسامح ونقيضه؟
العدد 1188 - الثلثاء 06 ديسمبر 2005م الموافق 05 ذي القعدة 1426هـ