لم يدخل التلفاز إلى بيتنا إلاّ بعد رحيل الوالد. لم يك متشدداً في التزامه الديني، ولكنها أولويات المأكل والمشرب والملبس، والأهم من كل ذلك، التعليم. كان شديد الحرص على أن نبلغ ما لم يبلغه سوانا من الأهل والأقارب، إلاّ أنه لم يعمّر طويلاً، ليقف على ما حققه بعض أبنائه وبناته، بعد أن اكتشف الأطباء أنه مات برئة وربع الرئة بسبب داء السل الذي كان شائعاً في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. كان مجرد الهمس بتمني وجود تلفاز في البيت كفيلاً بممارسة دوره في التربية بحسب مفهومه: علقة ساخنة، تحتاج إلى أيام كي تزول آثارها. كثيراً ما يجتمع أطفال البيوتات البحرينية أمام الجهاز الساحر، لمتابعة مسلسلات شهيرة، من بينها «أرض العمالقة»، و«مينيكس»، وكنا في كثير من الأحيان نطلق أسماء خاصة على بعض أبطال أفلام الكاوبوي، وخصوصاً «جون وين» الذي منحناه اسم «وش الراي»، بسبب موقف وجد نفسه فيه محاطاً بمجموعة من الهنود الحمر فاجأوه من دون أن يتمكن من الإفلات منهم. مع دخول الألوان على أجهزة التلفاز في بداية السبعينات، كان الأمر أشبه بالصدمة، إذ أصبح الجهاز الصغير بألوانه، سينما خاصة في البيوتات التي ربما أجّلت بعض الأولويات في سبيل اقتنائه. بعد رحيل الوالد إلى رحمة ربه، كان التردد في اقتناء جهاز تلفاز أكثر صعوبة من ذي قبل، بحكم الخلل والإرباك الذي أحدثه رحيله، لكن حلم اقتنائه ظل ملحّاً في مرحلة عمرية اتسعت فيها مساحة الخيال الذي عمّقته مضامين ذلك الجهاز السحري، الذي بات اليوم في كثير مما يضخه ويعرضه مصدراً من مصادر تسخيف وتسطيح ومصادرة الخيال.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1183 - الخميس 01 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ