بعد مضي أكثر من سنة على رحيل ياسر عرفات بدأ المشهد الفلسطيني يتغير سياسيا في خياراته وقياداته وقواعده. وينتظر أن تكون التحولات في السنة المقبلة أكثر وضوحا من السنة الأولى. فالمشهد يتغير إلا أن الرؤية لم تتبدل لتتجاوز تلك الانقسامات التنظيمية التي فرضت حضورها منذ توقيع "اتفاقات أوسلو" في تسعينات القرن الماضي. حتى الآن لايزال الخطاب الايديولوجي يكرر نفسه مقابل تخثر الخطاب البراغماتي المضاد. فالأول يركز على العناصر المبدئية "الجوهرية" والثاني يركز على موازين القوى والمعادلات الدولية والإقليمية. وبينهما هناك قوى نامية "خط ثالث" فشلت حتى الآن في تكوين موقع شعبي في المعادلة السياسية. انتخابات حركة فتح الداخلية لاختيار المترشحين للانتخابات التشريعية العامة افصحت عن نمو قوي للتيار الثالث الذي يبدو أنه أخذ يجذب قواعد فتح ويشدها نحو قيادة جديدة. الختيار الذي رحل قبل أكثر من سنة لم يكن بعيدا عن رعاية نمو وتطوير "الخط الثالث" الذي يجمع المواقف المبدئية إلى جانب السياسة البراغماتية ورؤيتها لموازين القوى وضعف الموقع العربي في المعادلة الدولية. عرفات كان دائما يمثل خط الوسط بين الايديولوجيا العامة والواقعية السياسية. ولهذا السبب حملت تجربته الطويلة مجموعة تعارضات جمعت بين مفهوم الدولة ومتطلبات الثورة. وبسبب هذا التعارض الذي أملته ظروف الشعب الفلسطيني والتحولات العربية السلبية ظهرت مجموعة انقسامات تنظيمية تعبر عن نفسها باتجاهات متباينة. وشكل هذا التباين في الاتجاهات نقطة توازن بين مراكز القوى لمصلحة رؤية عرفات. فكان تارة يميل إلى التيار البراغماتي "الواقعية السياسية" التي قادها الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس وطورا يميل إلى التيار المبدئي الذي يركز على الحقوق العامة ويرفض التكيف مع حركة الواقع. كان عرفات من انصار التيارين. فهو مع المبدأ "الحق العام" وأيضا مع التفكير الواقعي الذي يقرأ بدقة موازين القوى ويعرف حدود القوة العربية وضعفها في تعديل التوازنات الدولية. هذه القيادة التي صاغت نظريتها من التجربة أدركت بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 ان الوضع السياسي العربي "الرسمي" لم يعد في موقع يسمح بإعادة الحق لأصحابه من دون تفريط أو انتقاص. وبسبب هذه القراءة اتجهت القيادة الفلسطينية نحو الموافقة على قيام دولة في حدود الأراضي المحتلة في العام .1967 هذا التحول فرضته على عرفات موازين القوى الدولية وضعف المنظومة العربية وعجزها عن اختراق تلك المعادلات. ولهذا اتجه عرفات نحو سياسة القبول بالأمر الواقع. إلا أن المنظومة الدولية تدخلت مجددا لتفرض المزيد من التنازلات دافعة بالقيادة الفلسطينية للقبول بما هو أقل من قرارات الأمم المتحدة... من حق العودة "القرار 194" إلى انسحاب "إسرائيل" الكامل من الضفة والقطاع والقدس. البراغماتية إذا لم تكن أفضل كثيرا من المواقف المبدئية. إلا أن عرفات اضطر إلى استكمال سياسته الواقعية بعد أن انهارت المنظومة العربية بعد حرب الخليج الثانية "1990 - 1991" وبعدها انهارت المنظومة الدولية أثر تفكك الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشترالي. موازين القوى إذا تدخلت مجددا وفرضت شروطها وانتجت "اتفاقات أوسلو" وتلك السلطة الهزيلة في ربع أراضي فلسطين. فالسلطة أقل من دولة وأفضل من فصيل مسلح، ولكنها في المجموع كانت ضعيفة إلى درجة أنها غير قادرة على حماية عرفات وقيادته التي كانت آنذاك تحاول التوفيق بين المبدئية والواقعية. رحل عرفات التوفيقي منذ أكثر من سنة ولاتزال الرؤية ممزقة بين التيارين. والآن بدأت تظهر في الافق قوة ثالثة "عرفاتية في الجوهر"، ولكنها تتميز بخصوصية سياسية. والخصوصية هي أن القوة الثالثة من إنتاج الداخل لا من الشتات ويرجح أن تلعب دورها في كسر المعادلة التي استقر عليها الشعب الفلسطيني، مستفيدة من فشل السياسة الواقعية في إنجاز الحد الأدنى من الحقوق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1180 - الإثنين 28 نوفمبر 2005م الموافق 26 شوال 1426هـ