العدد 1179 - الأحد 27 نوفمبر 2005م الموافق 25 شوال 1426هـ

جلالة الملك... نصف قرن مضى على فرانكو

الشيخ علي سلمان comments [at] alwasatnews.com

-

نصف قرن هي المدة التي تفصلنا عن عنفوان ذلك المد الجمهوري القومي الذي اخترق تضاريس العالم العربي، وكنس في طريقه ملكيات من مصر إلى ليبيا، ومن العراق الى اليمن. نصف قرن مضى، ترنحت خلاله ملكيات أخرى بدت إلى حين كصروح متداعية تمضي الى الزوال، لكنها صمدت في وجه الأعاصير، وتجلت أكثر استدامة مما كان يتصوره العقل العربي الكسيح، وأكثر ثباتا من تلك الجمهوريات المحنطة التي يتمسك رؤساؤها بعروش سلطتهم مدى العمر كأنهم الملوك، لا هم لهم سوى إعداد أنجالهم للخلافة، ضاربين عرض الحائط بتطلعات شعوبهم ومنطق زمانهم. كان هيغل يتصور ان الملكية الدستورية وحدها القادرة على تجسيد المصالحة بين متطلبات التمثيل الشعبي ورغبة الملك الجامحة في أن يكون سيد الأمر. وحدها الملكية الدستورية هي التي شكلت على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر جوابا ذكيا للسلطة الملكية على مطالب البرجوازية الناشئة، وعلى القيم التي أشاعتها الثورتان الانجليزية والفرنسية. حينها كان هيغل يتقدم كالمدافع المستميت عن نظام الملكية الدستورية باعتباره أفضل نظام يوفق بين تمثيل مصالح الشعب وتمثيل مصالح الأمة التي يشكل الملك رمزها الأسمى. ضمن هذا التصور الهيغلي للدولة يتحقق النظام ويستقر التوازن من خلال التركيب بين الضدين: الديمقراطية والملكية، فالملك كما شخصه الفيلسوف الالماني في كتابه "مبادىء فلسفة الحق"، هو الضامن لتوازن السلطات، والمجسد الأمثل لمطالب الشعب، والرمز الأرقى للسلطة المشتركة. ظلت انجلترا إلى حين من الدهر النموذج المرجعي للملكية الدستورية، بينما بدأت الملكيات الأوروبية بعد قرون من الهيمنة والتفرد بالحكم تدخل في لحظات احتضار، عاجزة عن الاستجابة لتطلعات شعوبها لتتهاوى كقصور من ورق. اليوم صارت الديمقراطية التمثيلية أسلوبا للحكم المتحضر وللحكومة الجيدة، ولم تبق على صعيد القارة الأوروبية سوى بضع ملكيات استطاعت أن تلعب دورا داعما في الرخاء الديمقراطي وفي الازدهار الاقتصادي، وان تنتزع مكانة دافئة في قلوب شعوبها مع بعض التحفظات إليكم بيانها: مازال رئيس الدولة في هذه الملكيات ينحدر مباشرة من سلالة العائلات الملكية، ومازال جلالته يستوي على عرشه بكيفية وراثية، ويمارس صلاحيته لمدة زمنية غير محدودة. وذلك بالضبط ما بات يثير في السنوات الأخيرة حفيظة قطاعات من الرأي العام الأوروبي الذي نقل النقاش إلى وسائل الإعلام والمؤسسات المنتخبة. يعيب المتحفظون على ما تبقى للملكيات الأوروبية من نصيب هزيل في سدة الحكم، كون ملكة هولندا عضوا في الحكومة، وتتفضل بتعيين الوزراء وتوقيع نصوص القوانين، ويؤاخذون على النظام الملكي تعارضه مع مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، إذ يستوجب الدستور الدنماركي ان يكون الملك بروتستانتيا لوثريا، وفي انجلترا يتعين ان يكون الجالس على العرش رئيسا للكنيسة الكاثوليكية، وفي هولندا تنص القوانين في ديباجتها على أن صاحب الجلالة يعلن القانون "بالفضل الالهي". ومع ذلك فإن الشعوب الاوروبية لاتبدو اليوم مهيأة لإعادة النظر في أوضاع ملكياتها كإحدى الاولويات السياسية. وقد كان لافتا للانتباه تقدم عشرين برلمانيا من مختلف الاقطار الأوروبية والحساسيات السياسية إلى الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي في شهر مايو / أيار الماضي، بمشروع قرار يلتمس انجاز دراسة عن الوضع السياسي للعائلات الملكية في أوروبا، باعتباره وضعا يطرح عدة تساؤلات حول أعمال المبادىء الديمقراطية، خصوصا ما يتعلق منها بالفصل 52 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي ينص على "حق كل مواطن في تولي الوظائف السياسية في بلده". لست أدري إن كان الموقعون على المشروع يسعون إلى تمتيع كل مواطن أوروبي بحقه في الجلوس على عرش أسلاف غيره، وعلى تولي منصب جلالة الملك. المهم ان الجمعية البرلمانية لم تطرح للتصويت هذا الملتمس، واكتفت بنشره ضمن وثائقها كمقترح لايخص إلا موقعيه. وبدورنا لا يخصنا هذا الاجتهاد من بعيد ولا من قريب، مادامت ملكيتنا تختلف عن الملكيات الأوروبية، وتختلف أيضا عن ملكيات النفط، وعن تلك التي نصبها الانتداب البريطاني. لنا ملكية دستورية ولنا ذاكرة وطنية. نصف قرن من الزمن مضى على عودة الملك الشرعي وعلى إعلان الاستقلال، وكانت الاحتفالات بهذه الذكرى مناسبة لائقة للإشادة بالقيم التي جسدها المغفور له محمد الخامس "حكم المغرب في الفترة ما بين 7291 - 1691"، ولحظة جدد فيها المغاربة وفاءهم لدماء الكفاح التي أريقت على درب التحرير وفاض مسكها الوطني. بعد انصرام لحظات الاحتفال ومداعبة الأمجاد، ومراسيم التوشيح والتدشين، بقي السؤال معلقا في الاذهان. بعد خمسين سنة من الاستقلال والبناء والصراع والوفاق، بعد خمسين سنة من التضحيات والاحباطات، من الآلام والآمال، بعد نصف قرن من السجون السرية والمقابر الجماعية، هل هناك إرادة ثابتة فعلية اليوم لانتقال لا رجعة فيه نحو الأفق الديمقراطي؟ إذا كانت الارادة موجودة فما الذي يعرقلها ويحاول تقليص مساحات تصريفها وإبطاء وتيرة تقدمها؟ الملك محمد الخامس كان واضحا غاية الوضوح عندما أعلن في خطاب العرش يوم 81 نوفمبر / تشرين الثاني 5591 قيام ملكية دستورية تتأسس على نظام ديمقراطي ، تحترم فيه كرامة المواطن. فلماذا بعد نصف قرن يظل المسلسل الديمقراطي والانتقال الديمقراطي والمشروع الحداثي الديمقراطي كالتراتيل نرددها ونحن نراوح مكاننا، ونستطيع بالكاد الافلات من قوة الجذب إلى الخلف. هناك إرادة لا ريب فيها، وما أشكال التعثر والارتباك سوى تعبير عن العجز العمومي على الاحتفاظ لهذه الإرادة بقوة الدفع التي تكفل لها الاستمرار والدوام، إذ كثيرا ما تتجلى هذه الارادة قوية وهاجة في لحظات التجاوب الخلاق بين الملكية والقوى الديمقراطية، لكنها عادة ما تكون قصيرة النفس، وتأخذ شكل موجات سرعان ما تتكسر بمجرد اصطدامها بالشاطىء، ثم ما تلبث ان تخمد وتتلاشى لتبدأ بعد ذلك حال من الجزر والشلل. لقد أكدت التجربة بالملموس ان اللحظة الديمقراطية ما إن تتهيأ حتى يندفع المغرب بقوة الى الأمام، لكن "شيئا ما" أو "جهة ما" تسحبه الى الخلف لنكتشف أننا ضللنا الطريق، وعلينا استجماع طاقاتنا، والاستعداد للانطلاق من جديد.

فرانكو وعرش دي بوربون

ثلاثون سنة مرت على تولي دون خوان كارلوس دي بوربون عرش المملكة الاسبانية، واحتفل الشعب الاسباني يوم الثلثاء الماضي بهذه الذكرى التي ترمز أيضا إلى رحيل الجنرال فرانكو وانتهاء ليل الدكتاتورية المظلم، بهذه المناسبة قال "ملك التغيير" كما سمته صحيفة "الباييس": "إن الشعب الاسباني يستحق كل التكريم والثناء، وكل الاحترام والتقدير، على جهوده وسخائه ومسئوليته وتضحياته في التحول الحاسم لاسبانيا الى بلد ديمقراطي حداثي متضامن، منفتح وموحد". وعلى غرار الملوك الديمقراطيين عبر الملك محمد السادس في الذكرى الخمسين لاستقلال المغرب عن "الشكر والامتنان للشعب المغربي قاطبة، بكل أجياله ومكوناته شيبا وشبابا، رجالا ونساء"، وعن عميق عرفانه "لرجال ونساء الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير الذين أبلوا البلاء الحسن دفاعا عن الوطن وسيادته". وعلى غرار الملوك الديمقراطيين تجلى للعيان كيف يمضي محمد السادس في صوغ جديدة للمشروعية السياسية عندما يعاهد الشعب المغربي في الخطاب نفسه، بأن يجد في خديمه الأول "ملكا مواطنا"، وكأني بجلالته يؤكد مرة أخرى إرادته المتجاوبة مع تطلعات الشعب ومع منطق العصر، والمتعارضة مع "شيء ما" و"جهة ما" إرادة لا تريد أن تكتفي بالمشروعية التقليدية، وتسعى إلى استيعاب قيم الديمقراطية والمواطنة بما يكسب النظام السياسي مزيدا من الفعالية ومن القدرة على تعبئة المجتمع ونخبه الفاعلة. في ساحة ضريح محمد الخامس بالرباط التفت رئيس الحكومة الاسبانية رودريغيت ثباتيرو نحو الملك محمد السادس قائلا له إن "صواب توجه الحكومة تحت قيادة جلالتكم هو المفتاح الذي سيمكن من تجاوز العقبات، إن تعزيز الديمقراطية والحريات سيكون دائما أكبر ضمان للنجاح".

العدد 1179 - الأحد 27 نوفمبر 2005م الموافق 25 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً