اطلعت على المقال الذي كتبه شوقي العلوي في صحيفة "الوسط" الغراء بتاريخ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بعنوان: "قراءة متواضعة. .. كيف نرى ضرورة وجود قانون ينظم أحوال الأسرة؟" فوجدت فيه قراءة تتصف بالموضوعية والحصافة والشعور بالمسئولية. وقد رأيت أن أعبر عن مشاركتي للكاتب في بعض ما ذهب إليه، وإن أعقب على احدى النقاط التي وردت في هذا المقال: 1- ما نقله الكاتب عن الإمام الخميني في كتابه "تحرير الوسيلة" في مسألة زواج الصغيرة والاستمتاع - فيما دون الوطء - حتى بالرضيعة، يفرض على واضعي قانون الأسرة أن يضمنوه مادة تنص على تحريم زواج الصغيرة، كما تنص على تحديد سن الزواج لكل من الفتى والفتاة، أو الرجل والمرأة، علما بأن هذه السن قد جرى تحديدها في بعض قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية بست عشرة سنة للفتاة، وثماني عشرة سنة للفتى، وفي بعضها الآخر بثماني عشرة وإحدى وعشرين. ويمكن مع هذا التحديد النص على أن للقاضي أن يأذن بتزويج الصغيرة التي تقل عن هذه السن - لظروف يقدرها - بشرط أن تكون الفتاة قد تجاوزت سن البلوغ في جميع الأحوال. كما يجب النص على أن فارق السن بين الزوجين لا يجوز أن يكون كبيرا "سواء أكان هذا الفارق خمسة عشر عاما أم أكثر" ولا أعتقد أن أحدا - من أي مذهب كان - يخالف في أن الزواج في هذه الأحوال يحقق أغراضه وشروطه، وأنه ينسجم مع مقاصد الشريعة ولا يخالف أحكام القرآن.
اجتهاد قابل للتحريم
2- إن الجمع في الزواج بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها لا يعدو أن يكون اجتهادا في إطار المذهب الشيعي، ولم يتفق معهم فيه سوى الخوارج وليس في فقه الشيعة الأمامية - فيما أعلم - ما يمنع من الاجتهاد في تحريمه أسوة بما أجمع عليه أهل السنة من تحريم هذا الزواج، عملا بالحديث النبوي الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الحديث، قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على القول بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها... لقول النبي "ص" في الحديث الشريف: لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" متفق عليه. وفي رواية أبي داوود "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أخيها، ولا تنكح الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى". قال الفقهاء: ولأن العلة في تحريم الجمع بين الأختين، والمنصوص عليه في القرآن الكريم: إيقاع العداوة بين الأقارب، وإفضاؤه إلى قطيعة الرحم، وهذا موجود في الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، والذي نص على تحريمه النبي الكريم "ص"، وقد جاء في بعض الروايات زيادة قوله: "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم". 3- استنكر الكاتب مسألة وطء المرأة دبرا، ورأى فيما ذكره الخميني في ذلك في كتابه المذكور "إهانة للمرأة وسلبا لإحساسها بالكرامة، مع أن الإسلام كرمها وأعزها ورفع من قدرها". قلت: والأمر كما قال... لكنه أضاف إلى ذلك أن أحد الاخوة القانونيين أفاده بأن ذلك ليس موجودا عند الشيعة فقط، "بل هو موجود لدى مذاهب أهل السنة هكذا" - وذلك نقلا عن كتاب لأحمد الوائلي - أحد رجال الدين الشيعة - وعقب شوقي بأن اعتراضه على هذه المسألة لا يختلف حتى لو كان ذلك موجودا عند أهل السنة. "قلت: كأنه يريد أن يقول: حتى ولو كان هذا مقبولا أو مجمعا عليه في جميع المذاهب" وما قاله الأستاذ شوقي حق لامرية فيه... فإن استنكار هذا الفعل وازدراءه قائم في جميع الأحوال، وبغض النظر عن القائلين به من أي مذهب.. بل ومن أي دين! ولكن المسألة هنا في صحة هذه النسبة إلى أهل السنة... وقد وضع العلماء من أخذ أحكام المذاهب من غير كتبهم أو مصادرهم المعتمدة، وخصوصا أنهم في كثير من الأحيان يذكرون بعض الآراء الشاذة أو التي قد تنسب إلى بعض العلماء... تمهيدا لمناقشتها وردها وتكذيب نسبتها إلى من نسبت إليه، وفي هذه الحال لا يجوز نسبتها إليهم، أو القول إنها تمثل رأيهم أو مذهبهم أو مذاهبهم - كما جاء فيما ذكره شوقي - ولا أقول: إن هذا المنهج خاص بالتعامل مع المذاهب السياسية العقائدية - الفقهية - كالسنة والشيعة، بل هو منهج عام وشامل يتسع كذلك للتعامل في إطار المذاهب الفقهية الأربعة عند أهل السنة أنفسهم على سبيل المثال، فلا تؤخذ آراء الشافعية من كتب الأحناف أو العكس؛ تأكيدا للدقة والموضوعية. وأعتقد أن من زود الأستاذ شوقي بصور صفحات من كتاب "فقه الجنس" للشيخ أحمد الوائلي "تؤكد جواز وطء المرأة من دبرها عند أهل السنة" لم يكن أمينا ولا منصفا! على رغم أن كلمة "من" في هذه العبارة، ليست "في" لا تخلو من تدليس! أو من حفظ خط الرجعة كما يقال، وكما سيتبين للقارئ في هذا المقال. قال تعالى في الآية 223 من سورة البقرة: "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين". روى البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر بن عبدالله قال: كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فأنزلت الآية: "نساؤكم حرث لكم" تتضمن الرد عليهم وقالت أم سلمة وغيرها سببها أن قريشا كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك فلم ترده نساء المدينة، إذ لم تكن عادة رجالهن الإتيان إلا على هيئة واحدة، فبلغ ذلك النبي "ص" وانتشر كلام الناس في ذلك فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها، إذا كان الوطء في موضع الحرث. ويعلل ابن عباس "رض" هذا الأمر الذي كان شائعا في المدينة بأن هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن، مع هذا الحي من اليهود، وهم أهل كتاب... وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وهذا ما كان يفعله ويقوله اليهود كما جاء في رواية البخاري ومسلم وغيرهما. قال المفسرون: و"حرث" تشبيه، لأن النساء مزدرع "أي مكان زرع" الذرية، وهذه اللفظة "الحرث" تدل على أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خصوصا لأنه هو المزدرع. بل إن في وسعنا ونحن نعيد قراءة الآية، ونستعرض ما ذكره المفسرون أن نضيف إلى ما قالوه: إن هذه الكلمة كررت في الآية الكريمة أو ذكرت مرتين: "نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم..." وكان من الممكن أو تكون: نساؤكم حرث لكم فأتوهن أو فأتوا نساءكم... وفي هذا التكرار تأكيد بين على أن الإتيان لا يجوز له أن يتجاوز موضع الحرث... وإلا فنحن أمام خروج عن اللغة وللسان الذي نزل به القرآن... وإلى نحو هذا ذهب الإمام مالك حين دس عليه بعضهم أنه كان يجيز الوطء في الدبر، قال القرطبي "المالكي" في تفسيره: "وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك! فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي، كذبوا علي! ثم قال: ألستم عربا؟ لم يقل الله تعالى: "نساؤكم حرث لكم" وهل يكون الحرث إلا في موضع النبت "أو المنبت؟!"". قلت: وهذا هو ما دلت عليه الآية السابقة، وهي قوله تعالى: "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" "البقرة: 222". فهذا الإتيان إنما يكون في الموضع الذي حرم عليهم في المحيض وإلا لما كان لربطه بالتطهر معنى... ثم جاءت الآية الآتية: "نساؤكم حرث لكم" تتحدث عن هيئات هذا الأمر بعد أن صار حلالا في هذه الآية "222" وكلاهما في منبت الإخصاب ليس غير، أو دون سواه! إنه الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث... وفي هذا دلالة واضحة على أن قضاء الشهوة إنما يقع في الإسلام ملازما لامتداد الحياة. وكما أن الإتيان في المحيض لا إخصاب فيه ولا نسل... فكذلك الإتيان في غير موضع الحرث لا إخصاب فيه ولا نسل! بل الأول مستقذر. والإتيان في الدبر أبشع منه وأقذر ولهذا ختم الآية الأولى بقوله تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين"".. وختم الآية الثانية بقوله تعالى: "واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين" وهو ختام لا يخلو من تحذير في الوقوع في هذا الأمر المحرم - وسائر المحرمات - ومن الإشارة إلى أن الاتزان بهذه الأحكام من صفات المؤمنين.
ابن عمر وتكفير الفاعل
والعجيب - بهذه المناسبة - أن ينسب القول بجواز الوطء دبرا إلى ابن عمر وهو الذي يروى عنه تكفير من فعله "ص 95 ج 3 من تفسير القرطبي" ويروى عن أبيه "رض" أن النبي "ص" قال له - في الآية - "أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر"، أخرجه الترمذي عن ابن عباس، وقال حديث حسن صحيح. قلت: والجمع بين هذين الأمرين اللذين نهى عنهما رسول الله يتطابق مع ما جاء في الآيتين السابقتين. أما ما توهمه بعضهم من أن كلمة "أنى" معناها "أين" أو فسرها به، وبنى على ذلك القول إن الوطء في الدبر مباح، فهو مرفوض بما ذكرناه من التقييد في موضع الحرث، من جهته. وبأن المعاني المشهورة لهذه الكلمة في العربية هي "كيف ومتى" من جهة أخرى. بالإضافة إلى أن تفسير الآية على النحو الذي ذهب إليه "جمهور العلماء من صحابة وتابعين وأئمة" - بحسب عبارة كل من ابن عطية والقرطبي - هو الذي تحدثنا عنه، وهو الذي دلت عليه الأحاديث النبوية الكثيرة؛ قال ابن عطية والقرطبي بعد أن أوردا طرفا من هذه الأحاديث النبوية: "هذه الأحاديث نص" في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، أي كيف شئتم من خلف وقدام و... إلخ فإما الإتيان في غير المأتي فما كان مباحا ولا يباح! وذلك الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتي محرم". أما هذه الأحاديث النبوية التي نصت على تحريم المأتي في غير موضع الحرث فهي - كما قال القرطبي - أحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله "ص" أثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داوود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم، وقد جمعها أبوالفرج ابن الجوزي بطرقها في جزء سماه: "تحريم المحل المكروه" قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن رسول الله استغني به عمن سواه. قال القرطبي: "وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تقع منه، وقد حذرنا من زلة العالم". وقال الشوكاني في تفسيره "فتح القدير": "وقد ذهب السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ما ذكرناه في تفسير الآية، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام" "1/226". ثم ذكر عددا من النقول أو الروايات عن بعض الصحابة والتابعين تجيز ذلك، وعقب عليها بأن في أسانيدها ضعفا، قبل أن ينقل رواية طريفة عن محمد بن عبدالله بن الحكم انه سمع الشافعي يقول: "ما صح عن النبي "ص" في تحليله وتحريمه شيء، والقياس انه حلال! ثم قال: قال ابن الصباغ كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن عبدالحكم على الشافعي في ذلك، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه! قلت: ولا ريب عندنا في أن الإمام الشافعي القرشي المطلبي العالم باللغة والأدب والشعر، والمقدم في الفصاحة والبيان لا يقول إلا بالتحريم والتجريم لهذا الفعل... ولا يمكن أن يقع فيما وقع فيه الجاهلون باللغة العربية وأساليب البيان ونظم القرآن، ولكننا نرى أن ابن عبدالحكم تعجل في قراءة ما رواه الإمام الشافعي، أو ربما فهمه على غير وجهه، ولم يقصد فيما يبدو إلى الكذب عليه، فقد أخرج الإمام الشافعي في كتابه "الأم" - وكذلك ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت "أن سائلا سأل رسول الله "ص" عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال "حلال أو لا بأس، فلما ولى دعاه، فقال: كيف قلت أمن دبرها في قبلها فنعم، أمن من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن". أما الأحاديث التي أشار إليها القرطبي فمنها قوله "ص": "لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في الدبر" وقوله: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" وقوله: "ملعون من أتى امرأته في دبرها"... إلخ قلت وبهذا يتبين أن من قال إن جواز هذا الفعل موجود لدى مذاهب أهل السنة ليس بصحيح. فأرجو من الأخ شوقي العلوي أخذ العلم، وبارك الله في جهوده. والله أعلم.
إقرأ أيضا لـ "عبد الأمير الليث"العدد 1176 - الخميس 24 نوفمبر 2005م الموافق 22 شوال 1426هـ