أراحنا تماما أن نعلق كل شيء على الإرهاب والإرهابيين، وأن نلقي عليهم كل تبعة، وننسب لهم كل نقص وخلل، ولأنهم في موضع الجناية والاعتداء والتطاول على أمن الناس واستقرار المجتمعات، وهيبة الحكومات، فقد اندفعت القوى الإعلامية تسلط الضوء عليهم "فحسب" إلى حد الإحراق والتذويب، الواقع الذي سهل تصديق التهم الموجهة إليهم، وإن كان آخرون يمارسون بعض أدوار هؤلاء الإرهابيين بحذافيرها، وبشكل أبرع، فحمل الإرهابيون بذلك أوزارهم وأوزار تصرفات غيرهم، لأنهم الأفقع والأسطع على واقع الحوادث. موجة عارمة من الرأي العام العالمي والإقليمي المحلي "الإسلامي والعربي" تعلو في تصاعد مذهل تجاه الإرهابيين لتحملهم مسئولية إلغاء الآخر وتهميشه وعدم الاعتراف به، ولأن المكروه يصدق فيه كل سوء وكل قدح، فقد تسالمنا على أنهم "دون غيرهم" من يلغي الآخر وينفيه ويحرمه حقوقه. وسط هذا الهدير الإعلامي المزمجر ربما نسينا أو تناسينا، أو حرفنا نظرنا بعض الشيء عن آخرين ليسوا أقل من الإرهابيين إيلاما وإساءة للآخر، لكن الدنيا أدبرت عن أولئك فأضافت إليهم مساوئ غيرهم. خذ مثلا عزيزي القارئ، ألا يمارس المحسوبون على تيارات الاعتدال والوسطية، "مع تحفظي" على هذه التسميات في عالمنا العربي والإسلامي، إلغاء الآخر بأبشع الصور وأحط المستويات؟ إن غالبية تيارات الاعتدال "كي أبتعد عن التعميم التام" تسمت بهذا الاسم وقبلت القوى الرئيسية في دولنا التعامل معها على هذا الأساس، لأنها اعتدلت في موقفها تجاه الحكومات القوية والراسخة في دولنا، والتي باتت تضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه الإخلال بالأمن والسلام والإضرار بالاستقرار العام، لكنها بقيت كما هي في أفكارها وتصوراتها وتحريضها لأتباعها تجاه الآخرين. وللوقوف على المشهد من قرب ومعاينته بتأمل ما عليك أيها القارئ الكريم إلا أن تعود إلى أدبياتها التي تتناول فيها الآخر، وإلى مواقعها على الانترنت لتلحظ "أولا" التباين في اعتدالها تجاه الدول خوفا وهيبة، وتراجعها عن بعض "وليس كل" اطروحاتها الجهادية والتحريضية بهذا الاتجاه، وبين رسوخ مواقفها تجاه الآخرين المختلفين معها فكريا، دينيا ومذهبيا، بل بأي نحو من أنحاء التباين والاختلاف. أثناء قراءتك لكتاباتها وسماعك لخطبها ستلتقط من دون أدنى شك أمرا "ثانيا" هو في غاية الخطورة، ستلحظها وهي تتحدث عن الاعتدال والوسطية تصر على موقف ضبابي "هلامي" تجاه الوجودات الأخرى التي تشاركها الأرض والوطن وحتى الدين أحيانا، فرأيها فيها ينقسم إلى أقسام، وموقفها منها يتعدد بتعدد الصور، ونظرتها إليها تختلف من حال إلى حال. انه تفصيل لثوب يصعب على الاعتدال لبسه، وعلى الأفكار المعتدلة قبوله، لكن للموضة والضرورة والحفاظ على الحضور الجماهيري والتحشيدي بين الجماهير أحكامه التي لا تخفى على أحد. مع ذلك فإن أي متابع يسهل عليه أن يكتشف عدم وجود إرادة جادة لنقل الساحة الاجتماعية من الفصام والتخاصم، إلى الاحترام والاعتراف المتبادل. أما الأمر "الثالث" الذي لن يخفى عليك أيها القارئ فهو اللغة التي قبلت التأدب واللطف تجاه الدول والسلطات القائمة، بينما بقيت على قساوتها ونعوتها الجارحة تجاه الآخر المختلف، فمازالت لغة التعريف بالآخر صلفة استعلائية، تنطلق من موقع الفجور بالإنسان والكفر بأحقيته وحريته في الإيمان والاعتقاد بما شاء. ربما تكون عدوى المرض المتمكن من الإدارة الأميركية قد انتقلت إلينا، فأصبحنا مثلها تماما لا نستطيع العيش بلا أعداء ولا نستلذ بوجودنا من دون حروب، لذلك لم نؤمن بوسطية تشكل لنا نهجا ونسقا واحدا في تعاملنا مع من حولنا، بل صنعنا لأنفسنا وسطية قابلة للتجزئة، ترضى بالاعتدال من جهة، ولا تحرمنا عداء الآخرين إن لم يكونوا على شاكلتنا، ولم يعتقدوا بفهمنا الأوحد للأمور. استأذن هنا بفتح قوس لأسأل: أيمكن أن يكون التباين عند القوم بين ما هو دولة وحكومة وبين بقية المكونات الاجتماعية نابعا من إدراك منقوص لمفهوم الأمن والاستقرار، متقوم بعلاقة ذات اتجاه واحد ومع طرف واحد "السلطة"؟ نحن في أمس الحاجة إلى بعض التواضع الذي يسمح لنا بالتتلمذ والتعلم من الحوادث التي تتحرك على مرأى ومسمع منا وفي عالمنا العربي والإسلامي لنتيقن أن توأم النجاح لأمن السلطة واستقرارها هو التراضي والتوافق بين مكونات المجتمع، وإشاعة أجواء الطمأنينينة بين مختلف تراكيبه ومشاربه المختلفة مهما تغايرت وتباينت، فأمن السلطة من أمن المجتمع، وأمن المجتمع جزء من السلطة، وكل واحد منهما جزء من مركب لا يعطي مفعوله التام من هدوء وتقدم وراحة بال ما لم يقترن برفيقه. أغلق القوس هنا لأعود إلى ما كنت فيه، خاتما مقالي بالقول: لكي لا يستوي المحسن والمسيء بدرجة سواء، استطيع الجزم وأنا في نهايات موضوعي، بأن هناك منصفين في مختلف ساحاتنا وبلادنا العربية والإسلامية، متمسكين برؤاهم وأفكارهم وقناعاتهم وانتماءاتهم بقوة وحزم، لكنهم في الوقت نفسه يقومون بدور طيب يلحظ على كتاباتهم التي أصبحت سمة وعلامة من علامات صحفنا المحلية والعربية، وستعرفهم بأسرع مما تتصور أيها القارئ. فكلامهم لين وأنفاسهم إنسانية، وقلوبهم بعيدة عن الفظاظة، ينصفون الآخر، حبا في الإنصاف وإرضاء لضمائرهم، واقترابا من الحق الذي ينشدونه دائما، وهم في موقعهم هذا يدفعون ثمنا باهظا من رصيدهم الاجتماعي وعلاقاتهم مع من حولهم، ويعانون إثر ذلك الكثير من المضايقات والمقاطعة، كان الله في عونهم وألهمهم الصبر، كما صبر أولو العزم من الرسل، وكما دفعوا حياتهم ثمنا، لكنهم ما وهنوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1171 - السبت 19 نوفمبر 2005م الموافق 17 شوال 1426هـ