العدد 117 - الثلثاء 31 ديسمبر 2002م الموافق 26 شوال 1423هـ

العام 2002 شهد تحوّل الاقتصاد الأميركي إلى «اقتصاد الإرهاب»

كلفة ضربة سبتمبر تقدر بين 30 و58 مليار دولار

أحمد مغربي comments [at] alwasatnews.com

في مراجعة متأنية للعام 2002، تبدو ملامح الاقتصاد الاميركي وكأنها في مرحلة تحول كبير. وانقضى معظم السنة، من دون ان تتوقف مؤشرات الاسواق المالية، وخصوصا «نازداك» و«داو جونز»، عن الانخفاض. احيانا تنخفض بقوة، فتهز معها اسواق العالم، واحيانا تراوح مكانها فتتنفس اسواق المال الصعداء.

وفي بعض الاحيان ترتفع مؤشرات اسواق المال، ويسود تفاؤل بقرب انفراج الازمة التي امكست بخناق الاقتصاد العالمي منذ العام 2000. ولا يدوم التفاؤل إلا قليلا، قبل ان يعود جو الازمة ليهيمن على الاسواق. ودائما، فإن ما يحصل في اميركا يهز العالم.

ولأن الاقتصاد الاميركي في ازمة فإن اقتصاد الارض مأزوم. ومنذ ضربة 11 سبتمبر/ ايلول وحرب افغانستان التي رأت فيها ادارة الرئيس جورج بوش جزءا من «الحرب على الارهاب»، يرجح ان الاخيرة صبت ذهبا في شركات المجمع الصناعي - العسكري الاميركي، خصوصا مع الخفض المستمر للضرائب على الدخل، ووجهت ضربة إلى «الاقتصاد الجديد»، بل إلى مسار العولمة نفسها!.

ومن يراجع صور 2002، يذهله التبدل الذي حدث في صورة «الاقتصاد الجديد»، اي ذلك المعتمد على المعلوماتية والاتصالات. وبعد مرحلة التسعينات الزاهية، اي خلال سنوات رئاسة بيل كلينتون، صنعت المعلوماتية وشركات الكمبيوتر والانترنت صورة خارقة عن نفسها. ولم تكن صورة زائفة. فالحال ان الاقتصاد الاميركي حقق، حينها، ما يمكن اعتباره «معجزة» فعلية. وشهد نموا متواصلا سنة بعد سنة، من دون ان يترافق النمو مع زيادة في التضخم او في معدلات البطالة. ولم تكن سنة 2002 زاهية ابدا، إذ غرق الاقتصاد الجديد في الفضائح التي توالت منذ تبين ان شركة «وورلد كوم» التي تدير وحدها نصف الهيكل الرئيسي للاتصالات على الانترنت، كذبت بشأن ارقام مداخيلها، وخدعت المستثمرين والاسواق، بما قيمته حوالي اربعة بلايين دولار في سنة واحدة! وسرعان ما اتضح انها لم تكن وحيدة في التلاعب «الذكي» في الارقام. وادخلت سنة 2002 إلى الاقتصاد الاميركي مصطلح «طهو الارقام» للإشارة إلى هذا النمط من التلاعب. وفي مسار «طهو الارقام» سارت شركات مثل «اي. او. ال» و«غلوبال كروسينغ» و«كويست» و«ادلفي» و«تايكو» وغيرها.

ولم تضرب هذه العاصمة في شجرة قوية، فالحال ان سوق المعلوماتية والاتصالات كانت قيد معاناة ابتدأت في العام 2000، عندما انهارت سوق «النازداك» فجأة، وخسرت تريليوني دولار في اقل من 48 ساعة. وسميت تلك الازمة بـ «انفجار فقاعة الانترنت». ثم عانت السوق عينها مرة اخرى في سبتمبر 2001. وفي تللك السنة، عانت سوق الاتصالات المتطورة من ازمة عدم اقبال الناس والحكومات والقطاع الخاص على شراء شبكات وادوات الجيل الثالث (جي ثري) من الهواتف المحمولة، على رغم الرهانات الكبرى عليها.

اذا، ضربت الفضائح حيث الازمات. وكمثال، فإن حجم سوق «نازداك» بلغ 5400 نقطة في ربيع العام 2000، بينما يقل حجمه راهنا عن 1500 نقطة. ولم تكن القطاعات الاقتصادية التقليدية في الاقتصاد الاميركي اقل تأزما. والحال ان مسلسل فضائح الشركات الكبرى ابتدأ من قطاع النفط (دائما النفط)، مع انفجار فضيحة شركة «انرون» للطاقة في ربيع العام الجاري.

إدارة بوش تتألف من مديري شركات

بعد غارات 11 سبتمبر، صب الكثير من اجراءات الرئيس بوش (الابن) فيما يشبه اقامة اقتصاد حرب، خصوصا ان الحرب العالمية الاولى للقرن الجاري لم تنته فصولا. ومع الحرب، بدت اميركا وكأنها تسير نحو «عودة» الدولة القوية، وخصوصا مؤسساتها الرقابية والامنية. ويتناقض ذلك مع مجمل مسار الاقتصاد الاميركي منذ عهد الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، خصوصا منذ التجديد الرأسمالي عبر العولمة، ابان ولاية الرئيس رونالد ريغان. وكأن بوش يعيد اميركا إلى عهد الرئيس الجمهوري دوايت ايزنهاور. والحال ان اصوات كثيرة، رأت ان اجراءات الادارة الحالية كانت «منجم ذهب» للشركات الكبرى، خصوصا تلك المرتبطة بالمجمع - الصناعي العسكري، ذاك الذي حذر منه ايزنهاور في خطابه الوداعي إلى الامة الاميركية!

هل يمكن ان نغمض العين لحظة لنتخيل اجتماعا للادارة الحالية في البيت الابيض؟ كم من مديري الشركات في هذا الاجتماع؟ لنعد على الاصابع كلها. الرئيس بوش (المدير السابق لشركة «هاركين» للنفط) ونائب الرئيس ديك تشيني (المدير السابق لشركة «هاليبرتون» للنفط) ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد (المدير السابق لشركة «جنرال انسترومانتس») ووزير المال بول اونيل (المدير السابق لشركة «الكتاوا» الشهيرة في صناعة الالمنيوم) واستقال اخيرا بعد فشله في تحسين الاقتصاد، وزير التجارة دون ايفانز (المدير السابق لشركة «توم براون» للنفط) ورئيس موظفي البيت الابيض اندرو كارد (ممثل سابق لصناعة السيارات) ومسئول الجيش توماس وايت (مدير سابق في شركة «انرون» للنفط) ومسئول القوات الجوية جيمس روش (مدير سابق في شركة «نورث غرومان» للصناعة) ومسئول الاسطول غوردن انغلند (مدير سابق في شركة «جنرال داينامكس»). الوظائف الخمس الاعلى في رأس هرم الادارة «محجوزة» لمديري الشركات وتحديدا النفط.

ومن غير الصعب القول ان التوجه الاقتصادي للادارة الحالية، خصوصا الاجراءات المتصلة بـ «الحرب على الارهاب» ضربت في عمق اقتصاد العولمة، التي كان يقودها الاقتصاد الاميركي ويفيد منها تماما.

تعنون «منظمة التعاون والتنمية الاقتصادي»، واختصارا (OECD) تقريرها لهذا العام باسم «النتائج الاقتصادية للارهاب». وهو دراسة موسعة عن ضربة سبتمبر واثرها الاقتصاد الاميركي والعالمي. ويركز التقرير على ان الطريقة التي تتعامل بها الادارة الاميركية مع الضربة والحرب التي تلتها، هي العنصر الاساسي في توجه الاقتصاد ونموه. وعلى خاص، يشدد التقرير على ان اجراءات مثل زيادة الانفاق العسكري، والحد من انتقال الاموال والسلع والبشر والخدمات، وزيادة الجمارك تحت بند «تكاليف أمنية»، وزيادة الوقت المطلوب للمرور في المطارات والموانئ ... الخ، تترك آثارا سلبية مؤثرة ومديدة، على النمو الاقتصادي في العالم.

ويحتسب التقرير ان الكلفة المباشرة للضربة لم تزد على 28 مليار دولار، ويقدر الكلفة الكلية بمبلغ يتراوح بين 30 و58 مليار دولار.

وينبه إلى انه اذا زادت كلفة تبادل التجارة الدولية بنسبة واحد في المئة، فإن الاقتصاد العالمي يخسر ثلاثة في المئة من قيمته.

وكنموذج، فإن التبادل التجاري بين اميركا وكندا يبلغ 1,4 مليار دولار يوميا. فإذا زادت كلفة التجارة بمعدل واحد في المئة، يعاني كلا البلدين من خسارة سنوية مقدارها تريليون دولار! تضاف إلى ذلك، التكاليف المباشرة للحرب.

ولعل هذا ما يفسر التفاوت الكبير في تقدير كلفة الحرب على العراق. فالمسألة لا تتعلق بالكلفة المباشرة للحملة العسكرية، بل في ما يلي ذلك من اثار على الاقتصاد العالمي.

«الدولار الضعيف» سلاح قاتل

وفي العام 2002، شهدت اميركا تضخما في جهاز الدولة، مع ما يرافق ذلك من تكاليف. وحدث معظم هذا «التضخم» في القطاع العسكري والامني. ومثلا، استحدث الرئيس بوش وزارة جديدة، وغير مسبوقة في التاريخ الاميركي، هي وزارة الامن الداخلي للبلاد. وتضم جيشا من 170 ألف موظف، يلقون بكل ثقلهم على اقتصاد ليس في احسن احواله. هل تراهن «دولة بوش» على مردود ما من توظيفها العسكري - الامني - الاستخباراتي، مثل الحفاظ على الطاقة الرخيصة والمتنوعة المصادر، عبر السيطرة مثلا على نفط بحر قزوين وغازه؟

مهما قيل في الازمة الحالية، يذكر دوما بأن «الدولار الضعيف»، الذي ولد من رحم هذه الازمة، يمثل احد الخيارات التي كانت تحضر دائما في بال الساسة في البيت الابيض. واساس اختيار «الدولار الضعيف» ان اميركا تملك اقتصادا فريدا من نوعه. فهي الدولة الاولى المصدرة في العالم. وهي الاولى في الاستيراد، وتملك مخزونات هائلة من المواد الخام للصناعة، وتسيطر على معظم مصادر المواد الخام في العالم، وتتحكم بأسعارها. هي الاولى في القمح والدواء والاسلحة، اي السلع الاساسية في تجارة العالم.

ويضر «الدولار الضعيف» ببعض وجوه الاقتصاد الاميركي، لكنه يجعل اميركا قادرة على اغراق دول الارض بسلع رخيصة، ولا يمكن منافستها. وفي المقابل، تسيطر على موارد الطاقة، واذا انخفض الدولار بشدة، تنخفض مداخيل «اوبك» بشدة. ويؤدي الدولار الضعيف إلى انخفاض قوي في القيمة الفعلية لديون اميركا، اذ تصبح مجرد ارقام كبيرة، وهي من الاعمدة الاساسية للتبادل المالي الدولي. ومع انخفاض الديون، يضرب المدينون اخماسا بأسداس، فيما يتحرر الاقتصاد الاميركي من ثقل الديون. انه الخيار الصعب لاميركا، لكنه الاكثر ايلاما للعالم كله. هل يكون هو الملاذ الاخير للادارة الاميركية؟ لننتظر العام 2003، ونرى

العدد 117 - الثلثاء 31 ديسمبر 2002م الموافق 26 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً