عرف الإنسان أعراض الأمراض النفسية وقام بوصفها وتدوينها، إذ كان له التفسير بما يتناسب مع معطيات الثقافة والوعي بالصحة النفسية لديه آنذاك، إذ وردنا من التاريخ أن أقدم الحضارات البشرية ألا وهي حضارة الفراعنة كانوا على معرفة بأعراض بعـض الأمـراض النفسيـة وذلك من خلال تدويناتهم على أوراق البردي الفرعونية، إذ وصفت أعراض الهستيريا في بردية كاهون 1900 ق م، وأعراض الاكتئاب في بردية غليونجي 1983 ق م. أما في تاريخنا الإسلامي فإن الجانب النفسي قد أولى اهتماما كبيرا فلم يغفل التشريع الإسلامي في قرآنه وسنته وفقهه التكاملي من أن يعرفنا بالجانب النفسي السليم واعتلالاتها ويضع التشريعات اللازمة لحماية المريض النفسي بل وتطرق إلى التوجه العلاجي والأخذ به كما في الحديث الشريف؛ قال الرسول"ص" "ان التلبية "حساء من الشعير" تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن". بل وردنا أيضا من التاريخ الإسلامي ما قد سبق العلم الحديث بنظريته عن العلاج المعرفي السلوكي، إذ قال الإمام علي "ع": "إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن شدة توقيه، أعظم من الوقوع فيه" وهي طريقة علاجية تستخدم لعلاج الرهاب، إذ يتغنى العالم اليوم بنسبتها إلى علماء الغرب ومنهم جوزيف وولب. كما ان الطبيب العربي المسلم ابن سينا "980 - 1037م" شرح ما يسمى بالاستجابة الشرطية حاليا بقوله: "إذا كان تناول الطعام مقترنا باللذة، والضرب بالعصا مقترنا بالألم، فإن الحيوان والإنسان يحتفظان في ذاكرتيهما بصورة الطعام مقترنة باللذة، وبصورة العصا مقترنا بالألم فتصبح رؤية الطعام فيما بعد مثيرة للشعور باللذة ورؤية العصا مثيرة للشعور بالألم" وهو بذلك سبق العالم الروسي إيفان بافلوف بنحو تسعة قرون "1849م - 1936م" الذي نسبت النظرية اليه وسميت بالاستجابة الشرطية، إذ تدرس في كليات الطب وعلم النفس. وحيث وجدت الأمراض وصاحبها الاعتراف بماهيتها كان لازما إيجاد آلية عملية لاحتوائها فكانت المستشفيات، ففي عصر الازدهار والانفتاح العلمي أسس الوليد بن عبدالملك أول مستشفى في التاريخ للمرضى العقليين العام 93هـ الموافق 707م وأسس العباسيون قسما للأمراض العقلية في مستشفى بغداد في سنة 151هـ الموافق 765م وإنني هنا لست بصدد بحث عن أسبقية الحضارة الإسلامية في احتواء الطب النفسي تعريفا وتطويرا ولكنني أردت أن أبين لقارئي حقيقة أقدمية معرفة الإنسان بالأمراض النفسية وسعيه الجاد إلى إيجاد العلاج تأكيدا لمبدأ أن سلامة الإنسان في سلامة الجسد وسلامة النفس معا. وان تخللت التاريخ فترات من السبات في مختلف مجالات العلم المعرفي والتطبيقي فإن هناك فترات من الصحوة التي تبدد الغفلة وتنير دهاليز الظلمات وتكون هذه الفترات شارة مجد ومصباح نور لمن احتواها فتعتبر إنجازا في حاضرها وتسطر تاريخا مشرفا لمستقبلها، فقد سبقت البحرين دول المنطقة والكثير من الدول الإقليمية في مجال النهضة بالصحة النفسية، وذلك عندما أقر المجلس البلدي في 11 شعبان 1349هـ الموافق 31 ديسمبر/ كانون الأول 1930م في عهد المغفور له الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين آنذاك بإنشاء دار تأوي المرضى النفسين والعقليين وقام مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف مع الدكتور هولمس بالكشف على الأرض التي سيبنى عليها المستشفى ومدى صلاحيتها وأرسل خطابا بتاريخ 23 شعبان 1349هـ الموافق 12 يناير/ كانون الثاني 1931م إلى الحاكم مفادها ان الأرض صالحة لإقامة مستشفى عليها وإلى حين بناء الدار استأجرت البلدية العام 1932م دارا صغيرة في المنامة سميت دار المجانين وكانت تتسع إلى 12 من الرجال واثنين من النساء يقوم عاملون غير مؤهلين من البلدية على رعاية المرضى، وفي العام 1937م بنيت الدار الجديدة في الموقع الحالي لمستشفى الطب النفسي سميت بمأوى المجانين قرب دوار القفول وحينها أوكلت رعاية فحص المرضى النفسيين بدكتور الحكومة هولمس وكانت متابعة المرضى من الناحية الإدارية والتموينية والصحية من اختصاص مجلس البلدية ثم انتقلت الإدارة إلى الدائرة الصحية التي يرأسها الدكتور سنو في 1948م . وتوالت على المستشفى الكثير من الإنجازات والتطوير، إذ استحدثت وحدات نفسية متخصصة وأصبح المستشفى يستقبل المرضى النفسانيين بأعداد متزايدة سنويا، ففي حين كان عدد المرضى المراجعين 270 في 1963م ازداد ليصل إلى 2990 مريضا في 1968م أما في العام 2004م فقد أصبح عدد المرضى الكلي 13603 مرضى - ولا يمثل هذا الرقم عدد المرضى النفسيين بالبحرين، إذ لا يشمل عدد المرضى المترددين على العيادات النفسية والمستشفيات الخاصة - منهم 6822 مريضا يتلقون العلاج بوحدة الحالات النفسية للبالغين التي تشمل عيادة خارجية وأربعة أجنحة، اثنان منهم للنساء بسعة 28 سريرا واثنان للرجال بسعة 37 سريرا. هذا، وقد قطع الطب النفسي في البحرين شوطا كبيرا من التطور، إذ أنشئت وحدات متخصصة للعلاجات النفسية، ففي 1975م تأسس مركز الصحة المدرسية مقابل مبنى وزارة التربية والتعليم القديم وخصص لعلاج المرضى النفسيين من الأطفال المحولين من المدارس، إذ كان الطبيب السوداني الجنسية الزين عمارة يستقبل به الحالات يوما من كل أسبوع ثم انتقلت العيادة إلى مركز الصباح السالم العام 1978م وكان الطبيب محمد مرازقي مصري الجنسية يستقبل الحالات به في الفترة المسائية يومين من كل أسبوع وفي يونيو/ حزيران من العام 1981م افتتحت في مستشفى الطب النفسي أول عيادة للناشئة تستقبل الحالات يوما من كل أسبوع وفي 1983م اندمجت العيادتان في وحدة الأطفال والناشئة النفسية الذي بدأ هيكلها التنظيمي والعلاجي بالتطور في 1985م عندما تولى الطبيب البحريني أحمد الأنصاري رئاسة الوحدة لتصبح الآن مركزا تدريبيا للأطباء وتساهم الطبيبة هدى مرهون في معالجة الحالات النفسية عند الناشئة بالوحدة التي أنشئ لها مبنى خاص العام 1992م تشمل عيادة خارجية وجناحا بسعة 12 سريرا ويصل عدد المرضى المراجعين إلى 1191 مريضا في 2004م. وكان قد بادر الطبيب محمد الحداد في 1977م بإرساء فكرة علاج المريض المجتمع وأخذ بالإشراف عليها وبدأت بزيارات منزلية للمرضى المتغيبين عن حضور العيادة الخارجية تقوم بها هيئة التمريض وفي 1979م تطورت الفكرة بتأسيس وحدة العلاج في المجتمع، إذ أصبح الفريق العلاجي يتكون من طبيب نفسي وممرض وباحثة اجتماعية وهي السيدة حياة العلوي التي مازالت تقدم خدمات جليلة بالوحدة، ويتكون الفريق العلاجي حاليا من ثلاثة أطباء وستة من الممرضين المؤهلين برئاسة الطبيب حميد اليماني ومقسمين على ثلاثة فرق علاجية تقدم خدمات رفيعة المستوى إلى جميع مناطق المملكة على فترتين صباحية ومسائية ومن ضمن مهماتها خدمة الطوارئ، إذ يستقبل هذا الفريق النداءات العاجلة من ذوي المريض المصاب بانتكاسة مرضية والذي يخرج عن نطاق السيطرة ليقوم الفريق بتقديم المساعدة العلاجية اللازمة، هذا والوحدة تقوم بمتابعة 277 مريضا بحسب إحصاءات 2004م. وفي العام 1979م تأسست وحدة ابن النفيس وهي وحدة لعلاج المسنين من المرضى وتتبعها عيادة خارجية تأسست العام 1989م ويرأسها الطبيب عادل العوفي، إذ تتم متابعة 615 مريضا مسنا بحسب إحصاءات 2004م. وبعدما كان مرضى الإدمان يتلقون العلاج في العيادة الخارجية بوحدة الحالات النفسية للبالغين أصبحت لديهم وحدة خاصة بعد أن أصدر وزير الصحة السابق جواد سالم العريض قرارا وزاريا العام 1983م بإنشاء وحدة خاصة للإدمان بمستشفى الطب النفسي، وفي 1987م أنشئ مبنى وحدة المؤيد لعلاج الإدمان على نفقة الوجيه يوسف المؤيد ويرأسها حاليا الطبيب عبدالنبي درباس وتقدم الوحدة العلاج الدوائي والتأهيلي لمرضى الذين يعانون من مشكلات الكحول والمخدرات الذين أصبح عددهم 3761 مريضا بحسب إحصاءات 2004م للمستشفى النفسي. وفي 1987م تأسست وحدة العلاج النفسي المشارك "العلاج الوصلي"، ويرأسها حاليا الطبيب محسن طريف، ويقف الفريق العلاجي مع جميع أطباء مجمع السلمانية الطبي بمختلف تخصصاتهم لمتابعة المرضى من الناحية النفسية بغرض الاكتشاف المبكر للحالات النفسية وتقديم الدعم النفسي اليهم. وهناك أيضا وحدة العلاج بالعمل التي مازالت تقدم العلاج التأهيلي منذ الستينات ويرأسها حاليا الاختصاصي هيثم جهرمي ووحدة البحث النفسي والاجتماعي التي بدأت عملها العام 1969م وترأسها حاليا بتول شبر وتقدم الوحدة دراسة للوضع الاجتماعي للمرضى بالإضافة إلى الجانب التوعوي والمساهمة في العلاج السلوكي والمعرفي، أما وحدة علم النفس العلاجي التي يرأسها الدكتور أحمد غلوم وتأسست العام 1992م فإن من مهماتها التقييم النفسي الذي يساعد الطبيب على تشخيص المرض، بالإضافة إلى الإرشاد النفسي والعلاج السلوكي المعرفي، ووحدة العناية النهارية التي تأسست العام 1992م ويرأسها حاليا الطبيب محمد الحداد وتقدم العلاج النفسي الفردي والجماعي والعلاج السلوكي والاسترخاء، ووحدة القلق والوسواس وتأسست العام 1994م وتتابع 558 مريضا ويرأسها حاليا الطبيب جهاد العكري، وحدة الطب العدلي وتأسست في نوفمبر/ تشرين الثاني 2003م وهي وحدة تعنى وتتعامل مع الأمراض النفسية وارتباطها بمسائل قانونية ويرأسها الطبيب فاضل النشيط، هذا بالإضافة إلى وحدة صعوبات التعلم "التخلف العقلي" التي تأسست في أغسطس/ آب 2004م ويرأسها الطبيب علي عبدالقادر وتقوم بمتابعة 379 من الذين يعانون من أمراض نفسية واضطرابات سلوكية. وما سبق ما هو إلا الإيجاز القليل عن الطب النفسي في البحرين الذي حقق الكثير من الإنجازات ويقدم الكثير من الخدمات لا مجال لعرضها في هذه الإطلالة القصيرة.
العدد 1169 - الخميس 17 نوفمبر 2005م الموافق 15 شوال 1426هـ