العدد 1169 - الخميس 17 نوفمبر 2005م الموافق 15 شوال 1426هـ

حداثة متطورة... وأخرى متخلفة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

"الحداثات" العربية تمر في مأزق تاريخي. وأساس المأزق ان تلك "الحداثات" لم تنهض تاريخيا. فالحداثة التاريخية ليست موجودة فعلا لأنها أصلا لم تتأسس واقعيا. فهي ولدت من توهمات ايديولوجية استقوت بفرضيات انطلقت من قاعدة خاطئة ونسجت مجموعة أفكار منقولة "مترجمة" لا تعكس الواقع العربي الإسلامي ونسبة تطوره العمراني. "الحداثات" العربية ليست حداثة في المعنى الاجتماعي وهي لا تقاربها في الواقع. فهي تاريخيا ضد الحداثة لأنها افترضت مجموعة أوهام متفرقة أوصلت الفكر "العقل" العربي إلى أفق مسدود لا يستطيع تجاوز المرحلة ولا يقوى على المراجعة النقدية، وإعادة تأسيس الحداثة الحقيقية وتأصيل جوهرها التاريخي/ المعرفي من خلال عقد المصالحة مع الماضي والتصالح بين الدولة والمجتمع. هذا الانسداد وضع "الحداثات" أمام مأزق حقيقي. فهي متأزمة على مستوى السلطة السياسية "الأنظمة القمعية" وعلى مستوى الثقافة "النخب الاستبدادية". وفي الحالين تعيش "الحداثات" فترة موت تاريخي نشهد بعض نزعاته السياسية والايديولوجية في الكثير من بقاع العالمين العربي والإسلامي. المصالحة مع الماضي تشكل بداية صالحة لإعادة قراءة مشهد الحداثة في سياق تاريخي / معرفي. وهذه البداية ربما تساعد على توفير الشروط الموضوعية والذاتية لتجديد قراءة التراث والاستفادة منه لمعرفة آليات التطور وأدوات إنتاج السياسة. المثقف الأوروبي مثلا لم يقطع مع الماضي ولم يخجل من تاريخه. والحداثة الأوروبية لم تبدأ ضد الدين "المسيحية" وانما دافعت عن جوهره الإنساني ضد الكنيسة وهيمنة رجالها على الانجيل. فالفصل كان بين الدين والكنيسة وليس بين الإنسان والدين. وحين انطلقت حركة الإصلاح الديني بقيادة رجل الدين مارتن لوثر توجهت سهام النقد لرجال الكنيسة واتهم الفاتيكان بمصادرة الانجيل وعزل نصوصه عن المجتمع. مارتن لوثر الذي قاد حركة الإصلاح الديني "البروتستانت" بدأ نشاطه الثوري من خلال اتهام رجال الدين بالخروج على المسيحية ونصوصها الانجيلية. كذلك انطلق نشاطه الثقافي حين أقدم على ترجمة الانجيل إلى اللغة الالمانية لتصبح نصوصه منتشرة ومفهومة لدى العامة. فقبل لوثر كانت المسيحية منتشرة عرفيا ولكنها لم تكن نصوص الانجيل مفهومة ومعروفة. فالنصوص كانت باللاتينية ولا يطلع عليها الا قلة من المتعلمين في مدارس الرهبانيات. الدين المسيحي في أوروبا كان قبل حركة لوثر دين النخبة وتتداول نصوصه بلغة غير مفهومة شريحة من المثقفين. بعد لوثر تحولت المسيحية إلى دين الناس وبات الشعب "الالماني" على اطلاع على الانجيل. وبفضل ترجمة لوثر النص الديني إلى لغة الناس انتقلت المسيحية من وراء جدران الكنائس والرهبانيات إلى الساحة العامة وباتت بعد تلك الحركة دين المجتمع. هذه الحركة الإصلاحية "الدينية" جاءت في لحظة زمنية بدأت خلالها القارة الأوروبية تشهد سلسلة تحولات اجتماعية / اقتصادية نتيجة نمو حركة الفتوحات "الاكتشافات" الجغرافية. فالاكتشافات بدأت في مطلع القرن الخامس عشر وتتوجت في نهايته بالنزول في اميركا "العالم الجديد" والدوران حول إفريقيا وصولا إلى الهند. اسهمت هذه الاكتشافات التي سبقت حركة الإصلاح الديني بقرابة مئة سنة في تأسيس نهضة عمرانية في المدن البحرية "التجارية" وكسرت احتكار البحر المتوسط للتجارة العالمية. فبعد الدوران حول إفريقيا والوصول إلى أميركا استغنت أوروبا عن الوسيط المسلم وخطوط التجارة القديمة واخذت تؤسس خطوطها التجارية المستقلة بعيدا عن طريق الحرير الذي كان يربط أوروبا بالهند والصين من خلال عبور قوافل التجار في المناطق والمدن المسلمة. هذا التحول في الاتصالات الجغرافية اسهم في تراجع اقتصادات الدول والمدن الإسلامية وانعش الأوضاع العمرانية في سواحل أوروبا ومدنها البحرية. وبسبب هذا النهوض في ضفة والتراجع في ضفة بدأت موازين القوى تميل بالتدريج لمصلحة أوروبا على حساب العالم الإسلامي. كذلك اطلق هذا التحول سلسلة حاجات أوروبية منها تقليص دور الكنيسة واطلاق المسيحية من الأسر وتحويلها من دين النخبة إلى دين المجتمع. وبهذا المعنى يعتبر مارتن لوثر هو نتاج التحول الاجتماعي ونمو حاجات جديدة لنوع من التفكير الديني الذي يتناسب مع عمران "اجتماع" تمثله فئات "أو طبقات" جديدة. مارتن لوثر هو رجل دين حديث جاء للرد على حاجات طبقات اجتماعية حديثة استفادت من ذاك التطور العمراني الذي انتجته حركة الاكتشافات الجغرافية التي وضعت قواعد مختلفة لعلاقات الانتاج وخطوط مواصلات جديدة للتجارة الدولية. بين الاكتشافات الجغرافية وحركة الإصلاح الديني مئة سنة من التطور العمراني. وبين حركة مارتن لوثر الإصلاحية وبدايات نمو حركة التطور الصناعي مئة سنة. وبين نمو الحركة الصناعية وصولا إلى ثورتها الكبرى وما رافقها من انفجار سكاني اسهم في تطور الهجرات الأوروبية إلى اميركا واستراليا مئة سنة أخرى. الحداثة الأوروبية إذا لم تنفجر في سماء صافية وانما تشكلت تاريخيا من تحولات بدأت بالجغرافيا وتعديل خطوط المواصلات والتجارة ثم انتقلت إلى الإصلاح الديني ثم الإصلاح الاجتماعي وتأسيس قواعد مالية "ثروات وخامات" انتجت الحاجة إلى التصنيع والتطوير وتحديث الانظمة والقوانين والدساتير. والأخيرة أورثت أوروبا مجموعة مدارس فلسفية لم تقطع مع الماضي بل انطلقت منه لإعادة صوغ مفاهيم ومناهج تنادي بالحقوق والعدالة والحريات والمساواة وغيرها. الفكر الأوروبي الحديث تأسس على قواعد عمرانية ولم يتشكل من فراغ "نصوص منقولة" كما هو حال الفكر العربي المعاصر. وفلاسفة أوروبا، بدءا من عصر الانوار والنهضة، ساروا مع التاريخ وليس ضده. فهؤلاء لم يكتشفوا اميركا ولا أسسوا التجارة الحديثة ولا اخترعوا خطوط مواصلات واتصالات بديلة عن طريق "طرق" الحرير وانما استفادوا من كل تلك الانجازات العمرانية التي تحققت باستقلال عن منظوماتهم وأخذوا بقراءة آلياتها وعناصرها واجتهدوا من خلالها لصوغ تلك الأفكار الحداثية. فالنخبة الأوروبية متصلة بالتاريخ وهي من نتاجات ذاك التطور العمراني. فالعمران "الاجتماع" صنع النخبة ولم تصنع النخبة العمران. هذا المنحى التاريخي لتطور النخبة الأوروبية وثقافتها لم تعرفه النخبة العربية. فالنخبة العربية مقطوعة الصلة بالتاريخ وهي من نتاج تخلف العمران "الاجتماع" الذي بدأ يظهر بعد ظهور خطوط تجارة دولية بديلة عن طريق الحرير. فالانقلاب في الاتصال الجغرافي والمواصلات التجارية لعب دوره في تغيير التوازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين العالمين الأوروبي والعربي. ولهذا السبب الموضوعي الدولي "الجغرافي / التجاري" اختلف النمو التاريخي بين نخبة أوروبية حديثة تعكس الازدهار العمراني وبين نخبة عربية محتارة وضائعة تعكس التخلف العمراني. والمشكلة العضوية في النخبة العربية / الإسلامية انها تكثر الحديث عن "الحداثة" بمعزل عن ذاك الطور التاريخي الذي قلب المعادلات وغير اتجاهات الكرة الأرضية من الشرق "الصين" إلى الغرب "أميركا". "الحداثات" العربية لم تنهض تاريخيا. وبسبب قصورها العمراني لم تشهد المنطقة حتى الآن الحداثة المنتظرة. فالحداثة ليست فكرة منقولة عن كتاب أوروبي وليست بضاعة يمكن استيرادها وانما هي نتاج تطور يحاول الرد على حاجات داخلية. والماضي هو من ادوات الداخل والدين هو مادة تلك القوة الميدانية الصانعة لتلك الآليات المحركة للتاريخ والتطور. وحتى الآن لم تصل "الحداثة" العربية إلى هذا الطور من الوعي المعرفي / التاريخي. وبسبب هذا القصور حصل الانقطاع بين ماض مجهول وحاضر افقه السياسي مسدود ومتأزم.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1169 - الخميس 17 نوفمبر 2005م الموافق 15 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً