من الناحية النظرية يصعب الربط بين تفجيرات العاصمة الأردنية "عمان" الأخيرة، وبين الحوادث الدرامية التي وقعت في فرنسا. فالربط بينهما يمثل عملا تعسفيا اذا جاز التعبير. لكننا حين نتعمق في دراسة هذه الظواهر، نجد ان هناك علاقة عضوية واضحة بين الارهاب والارهابيين ونزوعهم إلى العنف المنفلت في أكثر من مكان، وبين القهر السياسي والظلم الاجتماعي سواء وقع في دولة من دول العالم الثالث مثل بلادنا، أو وقع في واحدة من أكثر دول الحضارة الانسانية تقدما ورقيا وحرية مثل فرنسا، ومن قبلها اسبانيا وبريطانيا بل والولايات المتحدة الأميركية. فمنذ اندلاع موجات العنف الارهابي المسلح في مصر على مدى عقدي السبعينات والثمانينات امتدادا حتى الآن، قلنا مرات عدة، ان الارهاب الذي يقتل بدم بارد وعقل متخلف وضمير ميت، لم يكن لينجح الا اذا مهدت له أرض معبأة بقهر سياسي وظلم اجتماعي يغذي فكرا منحرفا وتأويلا خاطئا حتى لمبادئ الدين السمح وقواعده الراسخة. وعلى كل حال ها هو الارهاب المسلح يعود فينتشر ويضرب بعنف دموي في أكثر من مكان، وخصوصا على الخريطة العربية من شواطئ المحيط الاطلسي الى شواطئ الخليج العربي، أي من المغرب والجزائر، الى مصر والسعودية امتدادا الى اليمن ولبنان... والعراق! وما أدراكم بالعراق، الذي تحول فجأة الى أبشع ساحة من ساحات العنف، والارهاب والمقاومة معا في ظل اختلاط هائل وامتزاج غريب يشوه صورة المقاومة الوطنية الشريفة ضد الاحتلال الأجنبي، لصالح الارهاب المنفلت الذي بات يصدر عمليات قتل الأبرياء من العراق عبر الحدود الى الأردن! ولكي نرجع الأمور الى نصابها يجب التأكيد مرة بعد اخرى أن ما تعانيه الساحة العراقية الآن، من الارهاب المدان أو المقاومة المشروعة، هو نتيجة طبيعية لغزو واحتلال العراق على أيدي قوات الاحتلال الانجلو أميركية منذ مارس/ آذار - ابريل/ نيسان ،2003 من دون غطاء شرعي من المنظمة الدولية، الأمم المتحدة ومن دون قرار دولي منذ البداية، بل وفقا لسياسات أميركية منفلتة هي الأخرى غامرت بدخول حربين في وقت واحد، الأولى في أفغانستان، والثانية في العراق، ردا على الهجمات الانتحارية على نيويورك وواشنطن في سبتمبر/ أيلول ،2001 وتحت مظلة حجج كاذبة وأدلة مزيفة، وخصوصا عن العراق، مثل امتلاك النظام العراقي المزاح والمخلوع أسلحة الدمار الشامل، الأمر الذي ثبت كذبه فيما بعد، لكن السيف البتار كان مضى في طريقه. واذا كان البعض يحمل الشعوب العربية والاسلامية وخصوصا حكوماتها الفاسدة المستبدة، مسئولية تفريخ الارهاب وتصدير الارهابيين نحو الغرب المتقدم والمرفه فإن مسئولية أخرى ينكرها هذا البعض، تتحملها الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، بسبب اعوجاج سياساتها وانحيازها البغيض إلى "إسرائيل" العدوانية تارة، وإلى نظم الحكم العربية والاسلامية المستبدة الفاسدة تارة أخرى.
ومن بين براثن الاستبداد العربي والاسلامي الحاكم من ناحية، والانحياز الأميركي والغربي ضد مصالح شعوبنا من ناحية أخرى نشأ اليأس والاحباط في نفوس البشر العاديين، وشاعت الكراهية المزدوجة لحكام الداخل ومتسلطي الخارج، وانتعشت المنظمات السرية والجماعات المتشددة التي آمنت بأنه لا حل في مسألة ازاحة هذا الثنائي سوى العنف والقتال ضدهما معا وفي وقت واحد، مستغلة حال الفقر والبطالة والتخلف. وبالقدر نفسه لا نستطيع ان نتجاهل الدور الأميركي والأوروبي، على مدى عقود سبقت في احتضان وتشجيع التيارات الاسلامية المتشددة، باعتبارها ورقة ضغط ضد الأنظمة الحاكمة التي تريد ابتزازها وإخضاعها لسطوتها كما لا نستطيع ان ننسى انه لولا الدعم والتأييد الأميركي والغربي لهذه التيارات والتنظيمات والاستعانة بها في الحرب ضد الاحتلال السوفياتي لافغانستان، تلك التي تورطت فيها حكومات عربية واسلامية كثيرة بالتجنيد والتمويل والتسليح، وانحيازا إلى الهدف الأميركي وخدمة له في مواجهة القوة السوفيانية السابقة، لما تمكنت هذه التنظيمات من الوجود والتوسع على نحو ما نراه الآن. أما وقد انسحبت الجيوش السوفياتية مدحورة من افغانستان فقد شعرت جميع الأطراف بالانتصار، اذ بقدر انتصار السياسة الأميركية في استنزاف الاتحاد السوفياتي السابق واجباره على الانسحاب بقدر تنامي الشعور بالقوة والنفوذ والقدرات المتزايدة التي أحست بها التيارات المتشددة التي أقيمت لها الاحتفالات الكبرى هنا وهناك اثر تحقيق النصر على العدو المشترك. في تلك الأيام كانت الولايات المتحدة هي السند الرئيسي لهذه التيارات بل الحاضن الأول، تساندها أوروبا الغربية، التي طالما منحت الرموز المتشددة المأوى السياسي والانفاق المالي بحجة حماية حقوق الانسان. لكن الأعاصير الطبيعية تدفع بالأمواج العاتية في اتجاهات مختلفة بل احيانا متناقضة، فقد اختلت المصالح وتناقضت الاهداف وتحول حلفاء الامس الى أعداء اليوم، وانقلب السحر على الساحر وارتدت السيوف الى النحور ودخلت التنظيمات المتشددة في تناقض كبير مع السياسات الاميركية والغربية، بل مع الدول العربية والاسلامية التي كانت بالأمس القريب سندها وحليفها الرئيسي. وبقدرة قادر تحول "الاسلام" كدين والمسلمون وخصوصا المتشددون منهم، من ورقة ضغط تراهن بها السياسات الأميركية والأوروبية، في وجه موجات الصحوة الوطنية والقومية، ناهيك عن الدعوات الاشتراكية، الى "العدو القائم" الذي كان كامنا، وفي سبيل ذلك مارست الحكومات الغربية عنصرية فظة وعداء علنيا وكراهية سافرة ضد عموم العرب والمسلمين، سواء كانوا على أرضهم وفي أوطانهم أو كانوا على الأرض الغربية ذاتها. وهذا بالضبط كان أحد أهم محركات انتفاضة الغاضبين والمهمشين في الأحياء والضواحي الفرنسية التي اطفأت أنوار باريس وغيرها من المدن المرفهة، فعاثوا في الديار حرقا ورفضا وخرقا لكل القوانين، لأنهم اكتشفوا ان "المدينة الفاضلة" تضيق بوجودهم داخل أسوارها العالية، وترفض منحهم أبسط قواعد العيش الكريم، بل ترفض الاعتراف بهم كمواطنين وقد ولد معظمهم فوق الأرض الفرنسية، فاكتسبوا الجنسية بالولادة، فاذا بهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة باعتبارهم نفاية وحثالة البشر!
ومن التناقض الظاهر للعيان، أن الدول الغربية بزعامة أميركا تضغط بعنف على الدول العربية، وخصوصا دول الخليج العربي المستوردة للعمالة الأجنبية بكثافة، لكي تمنح هؤلاء العمال حقوقا متساوية مع المواطنين الأصليين في حرية العمل والتنظيم والعقيدة والتنقل بينما هي تمارس ضد المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة وأبنائهم المولودين هناك عنصرية أشد وأقسى مما تفعله دولنا المتهمة بالعنصرية والتفريق بين المواطنين والوافدين! واذا اخذنا في الاعتبار ان هناك نحو عشرة ملايين مهاجر عربي على الأقل يعملون في أوروبا الغربية، ذهبوا اليها طلبا للمعيشة الأفضل، وهربا من قسوة الفقر ومهانة الاستبداد في بلادهم يضاف اليهم نحو ستة ملايين عربي ومسلم في الولايات المتحدة لاكتشفنا عمق الأزمة وخطورة المشكلة التي تواجهها كل الاطراف في ظل استمرار السياسات العنصرية والكراهية المعلنة أو المخبوءة! ومن اللافت للنظر ان معظم من قاموا بالتفجيرات الدامية، في لندن ومدريد ثم من قاموا بانتفاضة فرنسا أخيرا هم من أبناء هؤلاء المهاجرين، بالاضافة الى أفارقة آخرين، ربما انتقاما من هذه العنصرية العرقية والدينية والاجتماعية التي يعانون منها، واثباتا لنظرية أن الارهاب ينشأ ويزدهر في بيئة حاضنة تقوم على الحرمان والتهميش ورفض الآخرين وتفشي الفقر والبطالة والاحباط! من المؤكد أننا لا نبرر العنف ولا نقبل الارهاب تحت أي مسمى ولأي سبب كان، لكن من المؤكد أيضا أننا لا نوافق على السياسات التي نراها مشجعة على الارهاب دافعة للعنف، وها هي النظرية الأساسية تثبت صحتها، اذ إن القهر السياسي والظلم الاجتماعي يولدان هذا الارهاب ويشجعانه بصرف النظر عن المكان والزمان، منذ ثورة اسبارتاكوس والعبيد في الامبراطورية "الجريكورومان" قبل آلاف السنين، حتى اشتعال هجمات الارهاب الشرس في مصر، الاردن والسعودية، المغرب، الجزائر، اليمن والعراق وغيرها، امتدادا إلى نيويورك ولندن، مدريد وأخيرا وليس آخرا باريس وضواحيها المهمشة. لقد آن الآون لكي نراجع جميعا حكومات وشعوبا في الشرق المستبد وفي الغرب الديمقراطي!، مقولة ان الارهاب هو نتيجة لانحراف فكري أو ديني فقط، ثم نقاومه على هذا الاساس باجراءات أمنية أو غزوات عسكرية، ونتجاهل ان العامل الاساسي يكمن في القهر السياسي والظلم الاجتماعي اللذين ان اجتمعا دفعا الى الانحراف الفكري والديني أيضا.
خير الكلام
قال علي بن أبي طالب: لو كان الفقر رجلا لقتلته!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1168 - الأربعاء 16 نوفمبر 2005م الموافق 14 شوال 1426هـ