بعد أن قامت صحيفة "الوسط" مشكورة بنشر المسودة التي طرحها عدد من القضاة وغيرهم لقانون الأحوال الشخصية، وطلب مدونوها من عامة القراء فتح باب المناقشة فيها، ونظرا لوجود بعض الملاحظات نستعرضها فيما يلي: إن المسودة في مجملها لا تسد فراغا ولا ترفع نقصا، فالمساحة المعروضة من الأحكام الشرعية لا تعبر عن الأبعاد الحقيقية لما يمكن أن يطلق عليه "قانون" لقصورها عن استيفاء الأحكام المهمة التي هي موضع ابتلاء. فإذا بقيت مساحة واسعة بلا بيان للحكم الشرعي وأحيل الخيار لبت القاضي فيه فما الداعي لوجودها أصلا؟ إذ لن تحل معضلة ولن تكون كافية أو مستوعبة لما هو الدائر فعلا في القضاء الشرعي، وتكثير العناوين لا يغنى عن مثل ذلك الضمور والنقص. وهذا الأمر يستثير البحث عن ضمانة أخرى لا تقل أهمية عن الضمانة الدستورية التي يطالب بها الأخوة من العلماء المعارضين.
ما الذي يضمن جدوى المسودة؟
من الذي يقيم هذه الجدوى؟ وماهي ضمانات التنفيذ والعمل بها من قبل القضاة انفسهم في الوقت الذي كثرت فيه تجاوزاتهم العلنية؟ ومن الذي يفرض الرقابة الشرعية ويبين سلامة الحكم الصادر من المباينة للحكم الشرعي إذا كان جميع القضاة الفعليين أحداثا لا خبرة لهم ولا سابقة لهم في ممارسة القضاء ولا في تدوين الأحكام ولا في تقرير الجلسات ولا مراعاة أحكام الترافع وضبط وإدارة الجلسات؟ وينتابك الاستغراب عندما تجد في متن الحكم نقلا لوقائع جميع الجلسات والنص على التأجيل وحكاية جميع الوقائع ولو استغرقت عشرين أو ثلاثين صفحة، فهي سابقة تثير الضحك والاستهجان. ما هي ضمانات تنفيذ من يتسمون بقضاة شرعيين للأحكام التي تضمنها قانون الأسرة فضلا عن تنفيذ غيرها مما لم يتم الإشارة اليه وأغفل ذكره، لدي قضية كمثال بسيط صدر فيها حكم بالتطليق من المحكمة الكبرى الشرعية الدائرة الجعفرية وعليه تواقيع ثلاثة من قضاتها، لم يسأل فيه عن طهارة المحكوم بطلاقها وهل هي في طهر واقعها زوجها فيه ولم يؤخذ توكيل من قبل الزوج على التطليق ولا على نوع الطلاق ولم يؤخذ منه التوقيع على ورقة الطلاق، ولم تؤجل القضية على تحقق الطلاق، كما كانت العادة جارية إذ يطلق القاضي بعد ذلك في أحد المساجد أو المجالس بحضور الشهود العدول الذين يسمعون عن لسانه الصيغة الشرعية له، ثم تستصدر وثيقة الطلاق، وإنما كل ما انتهت به دعوى الطلاق صدور حكم مجرد بتطليق الزوجة طلاقا رجعيا للمرة الأولى وانتهى كل شيء. في مثل هذه المخالفة من المسئول؟ كيف تطلق تلك الزوجة طلاقا لم يراع فيه الضوابط الشرعية وكيف تتزوج بزوج آخر وهي مازالت شرعا في ذمة زوجها السابق؟ أليس في ذلك هتكا للأعراض وضياعا للأنساب ودمارا للمجتمع المسلم؟ وأمثال هذه القضية عشرات القضايا في الطلاق وغيره، التي اذا سألت من أصدر الحكم فيها من القضاة الجعفريين عن الوجه الشرعي فيها قال: "أنا على كيفي"، وكأنه يعاني من عقدة نفسية وتربع على هذا المنصب لتنفيس عقده، واحتقانات حب التسلط والعبث بمن يتسلط عليهم بلا رقيب ولا حسيب ولا اكترات من عواقب ما يصدر عنه أو ما سيحاسب به عند الله عز وجل يوم القيامة. وأشير الى بعض الملاحظات الأخرى دون الاسهاب في استقصاء الخلل في الكثير من مواده: 1- ألغت المسودة تقسيم عقد الزواج الى دائم ومنقطع، وهو ما يفتح الباب للطعن في مشروعية عقد الزواج المنقطع ويؤسس مبدأ رفضه والغاء العمل به رسميا في الأوراق الرسمية، والطعن فيما يترتب عليه من الآثار الشرعية من نسب وحقوق والتزامات أسوة بالعقد الدائم في الوقت الذي تحتوي فيه حاليا وثيقة عقد الزواج الصادرة من قبل المحاكم الشرعية على نوع العقد. 2- اغفال ما يشترط في لفظ صيغة عقد الزواج. 3- لم تستوف أسباب التحريم المؤبد كاللواط. 4- الشروط المذكورة لعقد الزواج غير مضبوطة، ولم ينص فيها على أقسام الشروط، وفيها خلط بين اللازم والجائز غير اللازم. 5- لم يدرج في الولاية في التزويج من الولي عن غير البالغ في حين تضمنت المادة "108" عدة الصغيرة غير البالغة. 6- تقسيم الزواج إلى صحيح وغير صحيح لا معنى له لأن اطلاق لفظ الزواج لا ينصرف إلا لما يصح وصفه بها، إذ مع انتفاء الصحة وانتفاء ما يلحق بها أعم من كونه نافذا أو غير نافذ لا يسمى زواجا بل سفاحا. 7- ما ورد تحت عنوان الباب الخامس دعوى الزوجية لا ينطبق على بلد مثل البحرين، إذ البلد صغيرة ولا يوجد من يتزوج مستقلا بصفة شخصية بدون الرجوع الى المأذونين الشرعيين، وإنما يصح مثل ذلك القول في الدول الواسعة الشاسعة كالهند وايران والعراق والسعودية إذ يسكن فيها القبائل والرحالة ولا يوجد تثبيت تام لعقود الزواج. ولا يتصور اتفاق مثل ذلك في مثل البحرين ولا نفهم من الغرض من وضعها سوى تبرير مزاعم تصحيح نسب لأولاد الزنا والحكم بصحة انتساب كل من يتولد عنه بحجة أن الزوجين تصادقا على وجود الزوجية بينهما قبل العقد الشرعي الرسمي بأي نحو اتفق. 8- فسخ عقد الزواج بالعيب المنصوص على افراده ومصاديقه غير تام بل يشمل بما سببه التدليس. 9- النص على أن أكثر مدة الحمل سنة دون التسعة الأشهر قول مرفوض وباطل ومجرد عن الدليل كما أثبته المحقق البحراني الشيخ يوسف "قدس سره" في كتاب "الحدائق"، فالنص عليه لا يقصد منه سوى تصحيح نسب ما تخلق من سفاح قبل عقد الزواج، كما نعرفه من حيل الكثير ممن ارتبط بعلاقات محرمة ونشأ عنها حمل شرعي قبل العقد الرسمي بشهر وشهرين. وهناك تجاوزات فاضحة ومخجلة من بعض القضاة كنا قد أحلناها في فترة سابقة وأطلعنا رئيس محكمة الاستئناف العليا الدائرة الجعفرية السابق المرحوم الشيخ سليمان المدني عليها، وأحضر من ارتكبها وأنذره من معاودتها لكن من دون جدوى، إذ كثر التلاعب بعد وفاته إلى يومنا هذا بشكل يثير الدهشة والاستغراب من استماتة بعض القضاة في تصحيح نسب أولاد الزنا، وإصدار أحكام تفيد النسب الشرعي لهم. 10- مسوغات حل الوقف وجواز بيعه في المادة "157" خلاف المشهور وما عليه التحقيق. 11- تضمنت المادة "21" للمرأة أن تشترط على الزوج أن تكون وكيلة في تطليق نفسها في الحالات التي ينصان عليها في متن العقد. ويرد عليه أن التوكيل عقد جائز متزلزل في الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية إذ يكون استمرارية التوكيل خاضعة لإرادة الموكل وله فسخه في أي وقت يشاء، ولا يستطيع أحد أن يرفع عنه هذا الحق ويسقط خياره فيه. وبغض النظر عن ذلك فهذه المادة تعبر عن مطاطية للتجاوز المفتوح، ووقعت في أيدينا تجاوزات من قبل بعض القضاة عند توليهم لإجراء بعض عقود الزواج، إذ ورد في بعض وثائق عقود الزواج اشتراط الزوجة على الزوج أن تكون عصمة الطلاق بيدها بلا إشارة للتوكيل ونحوه. ولا نحتاج لبيان المصائب والابتلاءات التي ستحل على المجتمع البحريني من مثل هذه الأفكار التي تربك وتبلبل وتفرق وتفسد أكثر مما تخدم وتصلح
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محسن آل عصفور"العدد 1166 - الإثنين 14 نوفمبر 2005م الموافق 12 شوال 1426هـ