الرسالة التي وجهتها القيادة السعودية للمسلمين والعالم في عيد الفطر، سميت برسالة التسامح، وجاء فيها "رسالتنا في أيام العيد هي رسالة محبة وتسامح وتراحم مع أنفسنا وذواتنا، وداخل مجتمعنا ومع أشقائنا في الدين، ومع إخوتنا في الإنسانية". يتذكر القارئ وهو يقرأ تلك الرسالة الحضارية، رسالة أخرى أصبح لها أهمية في التاريخ الثقافي والإنساني بعيدة الغور، وأقصد رسالة أو كتاب التسامح للكاتب الإنجليزي جون لوك الذي اثر في الفكر الإنساني لقرون طويلة ولايزال يؤثر. جون لوك كتب كتاب "رسالة في التسامح" الذي نشر للمرة الأولى باللاتينية العام 1689 وترجم إلى الإنجليزية والفرنسية، وترجمه إلى العربية المرحوم عبدالرحمن بدوي مبكرا، وربما نفذت طبعته اليوم. نحن نتحدث الآن عن أجواء الربع الأخير من القرن السابع عشر الميلادي الذي ظهر فيها الكتاب. وقتها احتدم النقاش بين المدارس المسيحية المختلفة، ووصل الأمر إلى أن تتهم كل طائفة من تلك الطوائف الطائفة الأخرى بالهرطقة والخروج عن الدين القويم، ووصل الأمر إلى الاقتتال الدموي الشرس بين تلك الطوائف. على هذه الخلفية كتب جون لوك رسالته في التسامح، وهو عالم الاجتماع والفيلسوف الذي رأى أن هذا الصراع المذهبي بين الطوائف المسيحية وقتها هو تعبير عن صراع البشر على السلطة ومحاولة احتكار المرجعية، أكثر مما يعبر حسب تعبيره، عن "كنيسة المسيح" فالذي يظل يفتقر إلى الرحمة والرأفة والعدالة والمعاملة الحسنة حيال البشر جميعا لا يستكمل الانتماء إلى الدين. ويسير جون لوك في تأكيد نظريته من فهمه لنصوص الإنجيل في تأكيد التسامح الذي هو صلب الإيمان الحقيقي. وإذا كان جون لوك قد استوحى رسالته في التسامح من نصوص دينه المسيحي كما فهمه، فليس أكثر من النصوص الدينية الإسلامية في التسامح والحض عليه وتعظيم تأثيره الديني والدنيوي. عدد من الإشارات هنا واجبة التذكير كقوله تعالى "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" "آل عمران: 159" أو "ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" "النحل: 125"، والكثير من النصوص الماثلة، هكذا وجه الله تعالى نبيه محمد إلى التسامح وقبول الآخر، تأكيدا للأثر المتميز الذي يتركه التسامح بين الناس ويشيع الألفة في تجميع القلوب، لأنه طريق الإقناع بالحسنى من خلال استخدام العقل الإنساني الحر. ولعل من المفيد أن نذكر أن جون لوك في كتابه "التسامح" ذكر باشمئزاز سلبي ممارسة العنف فما سماه بـ "الميليشيات المسيحية" المدججين بالأسلحة كما قال لهداية الناس، ويحثهم على السير فيما اختطه السيد المسيح "الذي لم يسلح أصحابه لا بالحديد ولا بالنار ولا بالسيف ولا بالعنف عندما أرسلهم كي يهيبوا بأمم الأرض ويدعونهم إلى الهداية". لا نعرف على وجه اليقين فيما إذا كان جون لوك قد تعرف على فلسفة الدعوة الإسلامية في نبذ العنف واستخدام العقل في الدعوة، فيما ملاحظاته هذه تذكرنا بعد ثلاثة قرون ونصف القرن من نشر تلك الرسالة، بما يدور بين ظهرانينا اليوم، من انتشار العنف الأعمى باسم الدين، وتحليل ما حرم قطعا في قتل النفس من دون وجه حق، وتكفير الناس وإخراجهم من الملة، زعما من هؤلاء أنهم بذلك الفعل يدعون إلى الدين الحنيف. يكتب جون لوك قريبا من هذا المفهوم فيقول: "ان التسامح حيال أصحاب الآراء الدينية المختلفة أمر يتفق مع العقل، وهو من الوضوح بمكان بحيث أن عجز بعض البشر عن رؤيته، رغم كل هذا الوضوح، أمر أشبه بالفضيحة". إن ما انطلق منه جون لوك يصح أن نتمثله اليوم، فالخلاف في "الأزمنة والأمكنة" هو ليس خلافا يدعو إلى نبذ الآخر في الدين، فقد صلى المسلمون الشيعة في صلاة عيد الفطر الفائت في أماكن غير التي صلى فيها المسلمون السنة، كما أفطر الأخيرون في أوقات غير ما أفطر فيه الأولون. اختلاف الأزمنة والأمكنة في العبادات لا يجوز أن يكون مدخلا لنبذ الآخر. فالجميع إن أردنا التوافق، سيطوفون ويسعون في موسم الحج القادم معا كتفا إلى كتف. وليس مستنكرا أن يختلف الناس في الفروع، فقد حدثنا ابن بطوطة في زيارته إلى مكة المكرمة، انه استمع إلى أربع مرات من رفع الأذان، كل مذهب من السنة يقيم الأذان بالتوالي، واستمر هذا العرف لعقود زمنية طويلة من دون استنكار، من وحد الأذان في مكة هو المغفور له الملك عبدالعزيز. ولم يكن ذلك مدعاة لشقاق. إذا كان ذلك مقبولا فلم لا يكون الاجتهاد مقبولا في فروع الفروع من نشاط الحياة والمعاش! بالعودة إلى "رسالة العيد" الذي وجهها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير سلطان إلى المواطنين والمسلمين والإنسانية، رسالة الدعوة إلى التسامح، فهي تعني الفهم الصحيح للدين الإسلامي الذي هو دين عالمي يتخطى اللون واللغة والثقافة، هو إنساني بهذا المعنى، ولا يحق بأي حال من الأحوال أن يقوم شخص أو فئة أو جماعة بإلحاق الضرر بمكاسب الآخرين الدينية والدنيوية، وأن يمنحوا أنفسهم التفويض بتدميرها بحجة أنهم يمتلكون الحق المطلق في التفسير، إذ ينبغي الحفاظ على حقوق هذا الآخر بوصفه إنسانا ومواطنا ومسلما وبوصفها حقوقا مقدسة، على رأسها ماله ونفسه، كما ينبغي إضافة قاعدة العدل إلى واجبات المعاملة الحسنة والرحمة. هذا ما يأمر به العقل والدين معا، كما ينصح به الاجتماع الإنساني الحضاري، فإن ضلت فئة عن طريق الصواب فإن الشيطان الرجيم قد غرر بها، وكل ما نفعله أن ندعو لها بالهداية.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1159 - الإثنين 07 نوفمبر 2005م الموافق 05 شوال 1426هـ