إنه شكل متميز للعولمة ذلك الذي اكتشفته وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي ايه" قبل أربع سنوات. ما تعرفه حكومات أوروبية وعربية كثيرة منذ وقت طويل وكشفت عنه صحيفة "واشنطن بوست" في بحر الأسبوع الماضي، لم يعد سرا أو مسألة محظورا مناقشتها. حين يتعلق الأمر بحقوق الإنسان لا يمكن السكوت بل يصبح السكوت على انتهاك حقوق الإنسان جريمة. بعد هجوم 11 سبتمبر/ أيلول تغيرت الولايات المتحدة وحصلت الـ "سي آي ايه" على الضوء الأخضر بأمر من الرئيس جورج بوش وبموافقة نائبه ريتشارد تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد لتمضي في حملتها ضد أعداء القوة العظمى. انها الاستراتيجية التي داست على حقوق الإنسان. إذ إن عمليات الخطف العشوائية التي تمت وتجري ضد مواطنين عرب منهم من يحمل جنسيات أوروبية من البلدان التي يقيمون فيها ونقلهم إلى سجون في بلدان تتعاون معها الـ "سي آي ايه"، لم تعد سرية على رغم أن الحكومات المتعاونة تتكتم عليها. من ضمن ما صدر من معلومات حتى اليوم هناك مئة من الأشخاص الذين اختطفتهم الولايات المتحدة بحجة الاشتباه في أنهم إرهابيون ليس لديهم أدنى فرصة للحصول على محاكمة عادلة وهم في زنزانات انفرادية في سجون الـ "سي آي ايه" المتفرقة في أنحاء العالم. وتقوم الـ "سي آي ايه" بهذه النشاطات التي تتعارض مع القوانين الدولية وتنتقدها منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، بعيدا عن أراضي الولايات المتحدة، كي لا يخضع المعتقلون إلى القانون الأميركي. انها العمليات التي تعفي عملاء الـ "سي آي ايه" من الالتزام بالقوانين الأميركية والسماح لأنفسهم باستخدام جميع أنواع التعذيب ضد المشتبه بهم. ولابد من التنويه هنا إلى أن تعذيب المعتقلين يعاقب عليه القانون الأميركي. تطلق الـ "سي آي ايه" على النوع الجديد لخرق حقوق الإنسان اسم استراتيجية تحسين تقنية الاستجواب. من أدوات هذه الاستراتيجية وضع رأس المشتبه به تحت الماء أطول مدة ممكنة وتكرار هذه العملية مرات عدة حتى تتحطم إرادته ويبدأ بالكلام. وهي طريقة طالما استخدمت في الأفلام. هذه الطريقة بالنسبة للخبير العسكري الأميركي مارك كارلاسكو الناشط مع منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان "هيومان رايتس ووتش" في نيويورك، تعذيب من الدرجة الأولى. إلى جانب تايلندا والأردن ومصر تتعاون الـ "سي آي ايه" في تطبيق هذه الاستراتيجية منذ سنوات مع بعض الدول الأوروبية إذ ضمت إلى شبكتها دولتين أوروبيتين هما بولندا ورومانيا. الأولى عضو جديد في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والثانية تسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. قال كارلاسكو إنه حصل على وثائق مهمة تثبت ما تقوم به الـ "سي آي ايه" من انتهاكات لحقوق الإنسان. هذه الوثائق هي خرائط الرحلات المخيفة التي تقوم بها طائرات تابعة للسي آي ايه من طراز بوينغ 737 ومن طراز غلف ستريم التي قامت بخطف أشخاص عرب من دول أوروبية نقلتهم إلى سجون في الدول التي تتعاون معها ومن ضمنها أفغانستان التي فيها أكبر سجن تابع للسي آي ايه خارج الأراضي الأميركية. هناك وثائق تكشف أن الـ "سي آي ايه" تتعاون مع بولندا منذ العام 2003 على الأقل في نقل وتعذيب معتقلين في سجن مدينة شميني شمال شرق البلاد حيث بالقرب منه مطار صغير تحط فيه طائرات الـ "سي آي ايه" من دون لفت الأنظار. كما يشير كارلاسكو إلى وجود قاعدة في بولندا لا تبعد كثيرا عن مقر الاستخبارات البولندية. لا تستبعد منظمة "هيومان رايتس ووتش" أن تكون نشاطات الـ "سي آي ايه" في بولندا ورومانيا تمت وتتم بموافقة الحكومتين البولندية والرومانية. ما هو غير معروف، أنواع التعذيب التي استخدمت ضد المعتقلين العرب في السجون البولندية والرومانية لكن المسئولين في الدول التي تتعاون مع الـ "سي آي ايه" في استراتيجية التعذيب، ينبغي عليها منذ اليوم أن تشعر بالقلق. عاجلا أم آجلا ستكشف الأسرار وبالتالي دور كل دولة معنية وستعرض كل منها نفسها لتهمة التعاون مع الـ "سي آي ايه" في انتهاك حقوق الإنسان. انه التحذير الذي وجهه الخبير العسكري الأميركي كارلاسكو، أيضا إلى الحكومة الألمانية. بحسب المعلومات التي تحتفظ بها منظمة "هيومان رايتس ووتش"، توقفت طائرات الـ "سي آي ايه" للتزود بالوقود في طريقها للقيام بعمليات مريبة أو متجهة إلى أفغانستان وفي طريق العودة إلى واشنطن، في الجزء العسكري من مطار فرانكفورت، أي على أرض القاعدة العسكرية الأميركية التي تم إغلاقها في الشهر الماضي. قال متحدث باسم المدعي العام في مدينة فرانكفورت إنه لا يجرى حاليا التحقيق بهذه الاتهامات التي وجهتها المنظمة الأميركية لعدم توافر أدلة قوية. لو ثبتت الاتهامات ستواجه الحكومة الألمانية تهمة التعاون في خطف أشخاص واحتجاز حرياتهم وهي التهم التي توجهها منظمة هيومان رايتس ووتش اليوم إلى تلك الدول. لكن المدعين العامين في ولاية راينلاند بفالز يحققون بعد ورود شكاوى ذكرت أن طائرة تابعة للسي آي ايه توقفت على أرض مطار رامشتاين العسكري الأميركي الموجود ضمن أراضي الولاية المذكورة، مقلعة من إيطاليا وكان على متنها الإمام المصري أبوعمر بعد اختطافه في ميلانو وكان هذا في مطلع العام ،2003 كما تم استخدام الأجواء الألمانية لنقل أبوعمر إلى سجن آخر. قبل ذلك بدأت سلطات العدل الإيطالية التحقيق بخطف أبوعمر وأصدرت مذكرات اعتقال أكثر من عشرة من العملاء الأميركيين الذين عرفوا عن أنفسهم كدبلوماسيين. هذه القضية تسببت بتوتر العلاقات بين إيطاليا والولايات المتحدة. من المستبعد جدا أن توافق الولايات المتحدة على تسليم العملاء المطلوبين للعدالة الإيطالية. بسبب هبوط طائرات الخطف الأميركية في ألمانيا أصبح المدعون العامون في هذا البلد مهتمين بما يثار حول القضية. كما حصل الألمان على ترجمة من اللغة الإيطالية لملف يقع في 700 صفحة يتعلق بنشاطات الـ "سي آي ايه" المريبة في أوروبا وفيها أن غالبية الذين تتهمهم الـ "سي آي ايه" بالانتماء لتنظيم "القاعدة" واختطفتهم في أوروبا نقلوا إلى سجون دول أخرى وهي من ضمن البلدان التي تتهمها وزارة الخارجية الأميركية باستمرار في تقريرها السنوي بخرق حقوق الإنسان. وتكتسب التحقيقات الألمانية أهمية خصوصا أن لبنانيا يحمل الجنسية الألمانية يدعى خالد المصري يقيم في مدينة أولم البافارية اختطفته الـ "سي آي ايه" من مقدونيا إلى أفغانستان حيث أمضى في معتقل أميركي نصف عام إلى أن افرج عنه. يحقق المدعي العام في ميونيخ ضد "مجهول" بهذه القضية حرصا على عدم توتر العلاقات السياسية بين ألمانيا والولايات المتحدة علما أن هوية "المجهول" معروفة للجميع. وقد طلب المدعي العام في ميونيخ أن تتعاون السلطات العدلية الأميركية معه لكشف ملابسات خطف خالد المصري وتقديم المذنبين للمحاكمة. هذا مستبعد، مثلما مستبعد أيضا تعاون الأميركيين مع الهيئة التي شكلتها الأمم المتحدة برئاسة البروفيسور النمسوي مانفرد نوفاك الذي سيحقق بأوضاع المعتقلين في معسكر الاعتقال "غوانتنامو". لن يتمكن موظفو الأمم المتحدة من الحصول على صورة واضحة عما يجري في غياهب هذا المعسكر التي كشفت عنها شهادات بعض الذين كتب لهم الحظ الحصول على عمر جديد وأفرج عنهم. إذ وافقت الحكومة الأميركية على منح نوفاك ومعاونيه يوما واحدا لزيارة المعتقل هذا إذا تمت الزيارة فعلا. وفقا لأقوال نوفاك سيصار في أقصى حد لإجراء عشرين مقابلة. لكن المحقق الذي عينته الأمم المتحدة للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري حصل على وقت أطول بكثير لممارسة مهمته. غير أن الفارق مع غوانتنامو، أن الولايات المتحدة لها مصلحة كبيرة في نتائج تحقيقات الأمم المتحدة في لبنان، لأنها لا تورط واشنطن، بل لأنها تورط سورية
العدد 1157 - السبت 05 نوفمبر 2005م الموافق 03 شوال 1426هـ