على رغم أن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لم يهدد بمهاجمة دولة "إسرائيل" أو يطالب بتجييش الجيوش ضدها باعتبارها دولة خارجة على القانون الدولي - كما هي في الواقع - بل قال إنها دولة ستزول ويجب ألا تكون على الخريطة الدولية باعتبار "أن الصهيونية فكرة عنصرية مقيتة لا يمكن للعالم الحر أن يقبلها، وأن كيانا يقوم على هذه الفكرة الخطيرة والبالية لابد أن يكون مآله إلى الزوال"، مع ذلك فإن أميركا أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد وجيشت العالم ولاتزال ضد إيران. وأساس الفكرة أصلا لمن لا يعلم عن جذورها يعود إلى الفكرة القرآنية المثبتة في نصوص لا تقبل الشك ولا التردد، التي تتحدث صراحة عن "العلو الإسرائيلي" الذي لابد أن يأتي يوم اندحاره وتراجعه وهزيمته ولو بعد حين كما هو وارد في سورة الإسراء. وقد صدق شارون عندما قال بعد أيام معلقا بأن أحمدي نجاد إنما أعلن ما يضمره المسلمون كافة في وجدانهم. وبعيدا عن اللغة التي تحدث بها الرئيس الإيراني، وكذلك عما إذا كان من حق رئيس جمهورية بلد ما أن يتحدث بتلك الصراحة واللهجة الدبلوماسية القاطعة عن حقائق كهذه أم لا، وبغض النظر عما إذا كان من حق تلاميذ المدارس في العالم الثالث أن يحلموا كما عبر تلاميذ إيران بـ "عالم من دون صهيونية" كما هو عنوان الندوة التي تحدث فيها أحمدي نجاد، إلا أن الضجة الكبرى التي أثيرت بشأن تصريحات الرئيس الإيراني كشفت عن الهوة العميقة التي تفصل بين ما يعرف بدول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة ومدى التمييز الخطير الذي يجري في التعامل مع الدول الأعضاء في الأسرة الدولية من قبل ما بات يعرف بـ "المجتمع الدولي". ففي الدورة الأولى للإدارة الأميركية الحالية كان عضو رفيع في الكونغرس طالب صراحة بما سماه بـ "اقتلاع جذور الأمة الإيرانية" متهما إياها قاطبة بالإرهاب! وفي زمان آخر طالب أحد المنظرين الدينيين من المحافظين الجدد الذين يقبضون على سدة الحكم في واشنطن بقصف مكة المكرمة وتدمير الكعبة المشرفة انتقاما من الإرهابيين المسلمين. وأخيرا وليس آخرا، فقد أعلن الرئيس الأميركي نفسه أن الله "أوحى" له باجتياح أفغانستان والعراق لتخليص العالم من الإرهاب والأنظمة الدكتاتورية، ولا ننس طبعا قولته الشهيرة التي بدأ بها ولايته عندما أعلن معلقا على حوادث 11 سبتمبر/ أيلول أنه يخوض "حربا صليبية". اما إذا سلطنا الأضواء على ما يفعله الكيان العبري نفسه بحق أصحاب الأرض والحقوق الشرعية في بلادهم فسيرى العالم وعلى الهواء مباشرة كيف أن هذا الكيان لا يجد أي حرج في سلوكه اليومي من أية سلطة كونية مهما علت وهو يقوم باقتلاع الناس أصحاب الأرض من مساكنهم ومزارعهم ثم يقوم بتجريف تلك الأرض وتدمير حضارة أهلها وذكرياتهم وكل ما يتعلق بوجدانهم من الخريطة بشكل كامل ثم يقوم بضمها إلى خريطة أخرى جهارا نهارا، فيما "المجتمع الدولي" الآنف الذكر مثقل بتوجيه اللوم تلو الآخر إلى أصحاب الأرض بسبب مقاومتهم المستمرة لهذه الممارسات، معتبرا إياها بأنها باتت تهدد السلم والاستقرار العالميين، فيما يصف القاتل والظالم برجل السلام العالمي. وهل هنالك بعد ذلك إجحاف أو ظلم أقسى وأمر على امتداد التاريخ البشري؟ لكنها المعادلة الدولية وموازين القوى المختلة تماما التي تميل بشكل واضح لا لبس فيه إلى القوة الغالبة المنتصرة على العالم الإسلامي منذ نحو مئة عام التي تشكل منذ ذلك الحين ما صار يعرف بـ "المجتمع الدولي" بعد عصبة الأمم، والأمم المتحدة التي ذابت شيئا فشيئا أو تكاد في بحر القوة العظمى الأحادية، من دون منازع ألا وهي الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة. تصوروا لو أن الفلسطينيين قدموا طلبا إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بضرورة استخدام الفصل السابع من الميثاق الدولي بحق "إسرائيل" لأنها تهدد السلام والأمن العالمي منذ خمسين عاما على الأقل، هل سيتجاوب أحد معهم من أفراد الأسرة الدولية؟ أو أن العرب قدموا مثل هذا الطلب بعدما أصبح كل شيء معطلا في بلادهم بسبب هذه "الغدة السرطانية" التي زرعت في قلب وطنهم منذ خمسين عاما لا لشيء إلا ليتخلص "أبناء الست" من جهة الشمال من البيض من المشكلة اليهودية على حساب "أبناء الجارية" السوداء من جهة الجنوب! تصوروا لو أن العراقيين أو الأفغان طلبوا اليوم مثل هذا الطلب بعدما تحولت بلادهم ملاذا للإرهاب والإرهابيين من كل لون بسبب سياسات خاطئة قاتلة بدأ يشكك فيها حتى أصحابها، فهل سيتجاوب العالم مع هذه الطلبات؟ مطلقا، لا، لماذا؟ لأن علينا أن ننتظر الزمن الكافي، لتصل القناعة! أو الخسارة بالأحرى إلى درجة غير محتملة لدى الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة نفسها فيحصل الإجماع المطلوب لمحاسبة الجاني بعدما يكون قد فات الأوان علينا، كما حصل في فيتنام ويمكن أن يحصل ويتكرر في أية منطقة من مناطق الجنوب المهددة بالاجتياح والغزو والقتل والتشريد، وكل ذلك تحت يافطة الفصل السابع للأمم المتحدة ودفاعا عن السلم والأمن العالمي. يا له من ظلم وإجحاف مضاعف. لكنها القوة والغلبة وموازين القوى هي هي نفسها في كوريا وفيتنام وقبلها في البيرو واليوم مع العالم العربي والإسلامي وآخر حلقاتها تلك المرتقبة مع سورية، ودائما تحت يافطة وعلم الفصل السابع. تصوروا لو أننا طالبنا بالحقيقة الكاملة عن جريمة اختطاف وقتل الزعيم المناضل المغربي المهدي بن بركة أو جرائم قانا وجنين وقبلها أم البقر أو القتل الجماعي للأسرى المصريين وتسميم ياسر عرفات وغيرها وغيرها. فهل سيستجيب العالم و"المجتمع الدولي" المحترم؟ بل هل تتصورون أن بإمكان بنغلاديش أو الصومال أو بوركينا فاسو أن تعترض على سلوك إحدى الدول العظمى في أي مجال ما، ومن ثم يصبح الخبر الرئيسي في نشرات الأخبار العالمية والفضائيات العربية؟ إنه قانون القوة والغلبة الذي يجعل مثل هذا الأمر مستحيلا ولا غير. تذكروا جيدا كم هي عدد الانقلابات والاغتيالات التي حصلت في بلادنا بدعم وإسناد الدول العظمى، هل استطعنا أن نجعلها خبرا رئيسيا في الإعلام من دون إذنهم؟ ناهيك عن مطالبتنا بالحقيقة الكاملة عن تفاصيلها قبل مرور 25 أو 30 عاما. حتى يمر الوقت الكافي الذي يمنع زعزعة الأمن القومي لهذه الدولة العظمى المتورطة أو تلك، أليس كذلك؟ إنه قانون الغلبة الذي يرفضون الإقرار بوجوده كقانون أعلى من كل القوانين والأعراف الدولية، وعندما يذكرهم به أحد يغتاظون ويقلبون الدنيا على رأسه. وهو ساري المفعول علينا للأسف الشديد ابتداء من معاهدة كيوتو والإنترنت والتجارة العامة والغذاء مرورا بالمحكمة الدولية وصولا إلى أسلحة الدمار الشامل والترسانات النووية المدججة بالظلم والإجحاف الدوليين بحق العرب والمسلمين وأبناء موغابي وتشافيز
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1157 - السبت 05 نوفمبر 2005م الموافق 03 شوال 1426هـ