إذا كان ما نشر على نطاق واسع صحيحا، فإننا أمام معضلة في هذه المنطقة تكاد تكرر الأخطاء التاريخية الكبرى، وأقصد هنا ما نشر عن الرسالة التي أرسلتها الإدارة السورية إلى كل أعضاء مجلس الأمن الأسبوع الماضي، فالنص الذي أرسل إلى كل من بريطانيا وأميركا وفرنسا، تعهدت فيه الإدارة بمعاقبة المتورطين في مؤامرة اغتيال رفيق الحريري، والنص الذي أرسل لبقية أعضاء المجلس أغفلت منه هذه الفقرة. يبدو أن ما نشر قريب جدا إلى الصحة إلى درجة أن أحدا لم يكذبه. هذا الموقف يشعر المتابع بالقشعريرة لما يمكن أن تتطور إليه الأمور، في بلد عربي يعتصر القلب ان تعرض إلى مكروه. الخطر الذي يواجه سورية محدق، يكتب عنه البعيد والقريب، والصديق والشامت، ولكنه خطر حقيقي. خطأ الرسائل ذات النصوص المختلفة يذكرنا جميعا بالحماقة السياسية التي ارتكبها صدام حسين، وهي حماقة تختصر بمفهوم الهروب إلى الأمام، والأمام هو باب جهنم اللاهب. لقد تكاثرت النصائح الورقية للإخوة السوريين حتى لم يعودوا يعرفون من أي الجهات تأتي، ومن الذي يأتيهم بالغث ومن ينصحهم بالسمين. واحد من المعلقين الغربيين ذوي التاريخ المحب لسورية، وأقصد به الكاتب البريطاني باتريك سيل، صاحب - ربما - أهم كتاب صدر عن الرئيس حافظ الأسد، يقول بالحرف الواحد في مقال نشر أخيرا: "الموقف الراهن -في سورية- يتعذر الدفاع عنه". وهو قول صحيح إلى حد كبير، وربما الجميع يريد من الإدارة السورية أن تنقذ الأمر بحكمة بالغة وبشجاعة أيضا. لم ألتق بمعارض سوري وطني إلا وقال أنه لا يريد لسورية مصير العراق، وانه ثمن باهض لا يريد لوطنه أن يدفعه، على رغم كل السلبيات التي تشعر بها المعارضة الوطنية تجاه الممارسات الداخلية. فهي تأنف أن تدفع أو توافق على ثمن كهذا. في سورية طائفة واسعة من المواطنين المحبين لتقدم بلدهم واستقرارها، والتضييق عليهم لا يخدم أحدا ولا حتى الإدارة القائمة، بل فقط المنتفعين، الذين إذا وصلت القلوب الحناجر ذابوا بأموالهم، أو انقلبوا إلى الصفوف الأخرى. على الرغم من الموضوع بكامله لا يحتمل التفاصيل، إلا أن "الشيطان في التفاصيل" كما يقول المثل الانجليزي، والتفاصيل جد مقلقة. فلأول مرة في التاريخ اللاحق للحرب العالمية الثانية، يتقابل المندوب السوري والمندوب اللبناني في محفل دولي، وهما ينظران باتجاهات سياسية مختلفة. هكذا بدا الأسبوع الماضي مندوب لبنان الحاضر في مجلس الأمن بطرس عساكر، والمندوب السوري فيصل المقداد. لقد تعود المراقبون منذ فترة أن يروا المندوب السوري في المحافل العربية والدولية وهو يلحن الأغنية، ومن يقوم بالعزف كان غالبا هو المندوب اللبناني، هذه المرة اختلف الأمر، وهو مؤشر يقول إن سحر التعود على المألوف قد بطل. المقداد كمثل آخرين من الذين تحدثوا على الفضائيات منذ تقرير ميليس من المسئولين السوريين، كان ينقص الكثير منهم قوة الإقناع، ليس لأنهم غير قادرين كأشخاص على الحديث بعربية منمقة، بل لأن المعلومات تنقصهم وبشدة، فعوضوا عنها الكثير من الكلمات والقليل من المعاني، وحتى لا يذهب الحديث مذهب الموقف المسبق، أقتطف من حديث السيد المقداد في مداخلته المكتوبة في قاعة مجلس الأمن، حديثه المقارن عن أنه ليس من المعقول أن تتهم أجهزة أمنية بارتكاب جريمة شنيعة فقط لأنها كانت هناك، ثم أردف قائلا: "فلو اعتمدنا ذلك لكنا قد اتهمنا الأجهزة الأميركية بتبعات ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد"! هذا كلام يبدو لقائله ولبعض متلقيه انه كلام عقلاني ومنطقي، ولكن فات المقداد أن يرى أن الأجهزة المعنية، بعد الحادي عشر من سبتمبر، قامت بأكبر استقصاء في التاريخ الحديث، وعرفت إلى درجة يقينية، من قام ومن خطط ومن نفذ، بالصورة المرئية وبالدقيقة المحسوبة. أي أن الأجهزة الأمنية لا تلام، لكنها تتخذ إجراءات فورية ودقيقة لمعرفة الجناة! وهذا لم يحدث كما يعرف العالم. ثم تحدث السيد المقداد عن طرف ثالث، لم يسمه هل هو طرف عربي أم طرف إسرائيلي، والمنطق يقول إن "إسرائيل" لها مصلحة غير خافية في الانسحاب السوري من لبنان، ولكن كان عليه أن يسمي، ويقدم فوق التسمية الأدلة، أو بعض الأدلة. لان اتهام تقرير ديتليف ميليس بأنه "سياسي"، قابلته شكوك في طرف ثالث "سياسية" أيضا، من دون إشارات لأدلة على الأرض. أما أكثر ما يلفت النظر هو تصريح أحد كبار المسئولين الإعلاميين السوريين بعيد تقديم تقرير ميليس في قوله لو أن القمر حدث له "كسوف" لاتهمت سورية بذلك، ونسي في غمرة حماسه أن الخسوف للقمر، أما الشمس فإنها تنكسف، حسب المصطلح السائد! واضح أن مستوى المجازفة السورية كان عاليا في لبنان، وفداحة الأثمان التي دفعت أو يمكن أن تدفع لا يتحملها لا لبنان ولا سورية ولا المنطقة بكاملها، وأن أية خطوة حكيمة تتخذها الإدارة السورية، ستكون مثمنة ومؤيدة من معظم اللبنانيين والسوريين والعرب، مهما كان الثمن الشخصي صعبا، فان الأصعب منه الثمن الجماعي والوطني. إنها لحظة عصيبة تمر بها المنطقة العربية، لحظة مشحونة بالانكسار وبفوضى الأشياء، وفشلنا الذريع في التعاطي مع الحداثة التي قال عنها كوفي عنان من على أعلى منبر دولي "لم يعد بمقدور الدول التخفي وراء السيادة لتنهك حقوق مواطنيها"، أي أن ما يمكن ان يقبل دوليا لا أكثر من أداء سياسي وفكري وثقافي يحترم قيمة الإنسان، أكان معارضا أو مواليا، صديقا أو عدوا. البحث عن الشيطان خارج الديار لم يعد مقنعا للعامة قبل الخاصة، وفي استفتاء لأحد المواقع الجادة على الانترنت قال أكثر من ستين في المئة بأنهم يثقون في تقرير ديتليف ميليس، ليس لشيء إلا لأن المواطن العربي لم تعد تخفاه التفاصيل. وقف العرب وتشحيم عجلات الحرب تجاه العراق قائم قاعد، مختبئين خلف أصابعهم وأمانيهم، وكلام معسول يرسلونه تجاه العراق، حتى وقعت الواقعة، وتدخلوا أخيرا بعد أن ذهب الضحايا بعشرات الآلاف، وتدفقت أنهر الحقد والغضب عليهم جميعا. لقد تركوا عجلات الحرب تسير وسارت كلمتهم في أعقابها، فهل يتركون من جديد رياح الشمال الباردة والقارسة تهب على سورية الشعب وسورية البلد، من دون أن يقولوا ما يجب عليهم أن يقولوا... كلمة صدق واضحة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1152 - الإثنين 31 أكتوبر 2005م الموافق 28 رمضان 1426هـ