تكاثرت وتوالدت، بل واستنسخ الكثير من الظواهر السلبية غير الحضارية في بيئتنا المحلية، فمن بين الظواهر التي لا تحمد عقباها، ونجدها بصورة حية متكررة في شوارعنا العامة، وعند تقاطعات الطرق، والاشارات الضوئية، ومحطات النقل العام، وعند المساجد، وعند المقابر، وفي الأزقة، بل وفي المدن، والقرى البحرينية، والمحلات التجارية، والأسواق... ظاهرة التسول التي تتنافى مع الصورة الحضارية، وتنقلنا من مجتمع حضاري متقدم إلى مجتمع لا حول له ولا قوة، لما تحمله هذه الظاهرة من سم قاتل تدسه لنا ونحن لا ندري ولا نعلم.
فالمتجول في طرق وشوارع البحرين يجد هذه الحقيقة مترسخة ثابتة إلى درجة أنه لا يكاد يخلو شارع من الشوارع العامة من وجود متسول رجلا كان أو امرأة، أو طفلا اذ يقفون على قارعات الطرق، ويطلبون المال من أصحاب السيارات السائرة في الشوارع، بينما يقف البعض الآخر عند تقاطع الاشارات الضوئية آملا في وقوف السيارات عند اشتغال اللون الأحمر، من أجل جمع المال من أصحاب السيارات الواقفة، وأحيانا يتحرك مع تحرك السيارات ما يعرض حياته وحياة السائق للخطر، من أجل نقود معدنية بسيطة لا تكاد تساوي الجهد والتعب المبذول من أجلها. بينما يداوم البعض على الحضور عند المساجد في أوقات الصلاة من أجل جمع المال من المصلين، في حين يقف البعض عند المقابر من أجل الهدف نفسه، كما يذهب البعض الآخر إلى المحلات التجارية لجمع المال من الزبائن وأصحاب المحلات التجارية، ويحرص البعض الآخر على الدوام في محطات النقل العام من أجل الهدف نفسه وأستطيع أن أشبه الأمر في دقته وتنظيمه بأنه أشبه بنظام الساعة اذ تتوقع وجود اجتماع خاص بين المتسولين في شتى أنحاء المملكة وحصول ما يشبه الاتفاق بينهم على توزيع المهمات والأدوار والأماكن فيتم تحديد المنطقة الفلانية للشخص الفلاني. وهكذا فلا أحد يعتدي على مكان وهدف الآخر. والغريب في الموضوع أننا قد نجد متسولا في شارع أو مكان معين ونجد شبيها له في الشكل العام بشارع آخر، والذي يشاهد هذا المنظر قد يعتقد بأنهما توأمان من حيث المظهر، او الشكل الخارجي، بل نجد التعبيرات نفسها، والعصا نفسها وحتى، الملابس نفسها. وكأنما اتفقا على ذلك مسبقا، والجميع في انسجام، واتفاق تام، ولم يحدث أن تشاجر أحدهما مع الآخر بسبب احتلال أحدهما مكان الآخر أو بسبب أخذ أحدهما رزق الآخر على رغم أن المهمة أصعب بكثير مما نتصور أو نعتقد.
والأدهى من ذلك أننا نرى البعض وهو يمارس ظاهرة التسول يظهر بشكل يحسب أنه ذاهب إلى حفلة تنكرية إذ أنه يعمد إلى تغيير شكله، وشكل شعره، ومظهره الخارجي، ولا يكتفي بذلك فحسب، وإنما يلجأ أيضا إذا أضطره الأمر إلى الادعاء بأنه معوق إذ أنه يعمد إلى استخدام العصا، ويضطر إلى حني ظهره، والغريب أنه يبرع ويبدع في ذلك كما أنه يتصنع تعبيرات خاصة حتى يضمن واستدرار شفقة ورحمة الناس، ولكي تعذره الناس فيما هو عليه وتكون كريمة وسخية معه.
أقول هذا والقصد ليس التحريض وإنما القصد التحليل. قد يكون المتسولون هم ممن يستحقون هذا المال البسيط الذي لا يتعدى النقود المعدنية البسيطة فهم على الأقل بذلوا مجهودا كبيرا في الوقوف ساعات وساعات في الشوارع، كما أنهم فكروا في استخدام عقلهم ولو بشكل سلبي في البحث عن آلية معينة للحصول على المال بإرادة الشخص أي أنهم لم يسرقوا، أو يختلسوا، ولكنهم تحايلوا، ومثلوا على الناس، من أجل لقمة العيش كما يدعون، ولو أردنا تسليط الضوء أكثر على هذه الظاهرة وعلى المتسولين لوجدنا أنهم ممن يجيدون الادارة وحسن توزيع الأدوار فهم يمتلكون رصيدا لا بأس به من الذكاء والحنكة بدليل أسر مشاعر الناس، وأن مكانهم في هذه الحال ليس الطرقات والشوارع العامة، وانما يجب استقطابهم، والعمل على ايجاد أماكن مناسبة لهم. والمهم قبل إصدارنا الاحكام على هؤلاء (قد تكون قاسية) لابد أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة التي بدورها قد تفتح آفاق المشكلة من أجل حصرها ومحاولة حلها. ما الدافع الذي دفع هؤلاء إلى التسول والضحك والتلاعب والتحايل على المجتمع بكل فئاته؟ ولماذا تمنى هؤلاء على رغم ما يمتلكون من قدرات وذكاء أن يكونوا في يوم من الايام معوقين يستخدمون العصا، وعاجزين وادعوا ذلك على رغم أن الصحة تاج على رؤوس الاصحاء لا يراه إلا المرضى؟ والإنسان الطبيعي السوي يتمنى الصحة والعافية خلافا للمرضى؟
لماذا ارتضوا لأنفسهم هذه المهانة وهذا الذل، ذل الحاجة والسؤال؟ وأين هي الجهة المختصة بالتحقيق في أمر هذه الظاهرة والتصدي لها؟ ولماذا تخلت عن دورها؟ ولماذا لم تحاول إيجاد مبررات كافية لذلك؟ ولماذا لم تحاول القضاء عليها أو ايجاد الدوافع والمبررات التي تدفع المتسولين إلى مثل هذا العمل؟ هل هو الفقر والحاجة أم الجهل والأمية أم الفراغ وطلب التسلية أم لفت النظر وإثارة الشفقة أم التصابي وقتل الفراغ؟ لابد من التحقيق مع هؤلاء ومعرفة ظروف حياتهم فربما هو الفقر وتكون أحكامنا عليهم قاسية، وربما الجهل ونحن ننعم بالعلم والنور.
إذا استطعنا الاجابة عن نصف تلك الاسئلة السابقة ضمنّا لأنفسنا الحكم بصورة قاطعة على أسباب تلك الظاهرة، وبالتالي استطعنا إعداد البرنامج المناسب للتصدي لها والقضاء عليها، والا ستبقى الظاهرة في مد دائم ولا جزر يعتريها، وبالتالي قد توصلنا هذه الظاهرة والصفة اللاحضارية إلى الهاوية... إلى مستوى نحن لا نتمنى الوصول إليه
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 115 - الأحد 29 ديسمبر 2002م الموافق 24 شوال 1423هـ