حظي الروائي اليمني وجدي الأهدل صاحب «قوارب جبلية» بشهرة طبقت الآفاق، حين أعلن غونتر غراس في زيارته لليمن منتصف الشهر الجاري، أنه لو كان يتقن العربية لدافع عن هذا الروائي الشاب... الذي غادر وطنه خوفا من تصفيته.
وإن كان الأهدل قد نال قسطا لا بأس به من الشهرة، فإنه في المقابل حصل على كمٍّ وافر من التهديدات على مستوى سلامته الشخصية، بفضل فقهاء التأويل، الذين باستطاعتهم بكل بساطة سلخ جمل أو مفردات من سياقها العام، وبناء تصورات عليها تكون في الغالبية مبنية على مسبقات مزروعة في أدمغتهم، يتم ليها وتمطيطها، لتتوافق مع ما يعتمل في صدورهم. وترى في كل شيء شرا مستطيرا يريد هدم القيم، وزعزعة الثوابت، والنيل من المجتمع... وكأن هذه الثقافة وهذه الحضارة - لو صدقت مزاعمهم - من الهشاشة بحيث «يقلب عاليها واطيها» كاتب بالكاد بدأ يدرك فنون اللعب باللغة، وهو للتو قد عرف آليات تشييد نص لافت...
لقد كان هذا الأهدل محظوظا وغير محظوظ قياسا بغيره، فشفاعة صاحب نوبل الألماني أتت في وقتها وشكلت حرجا من نوع ما، وخصوصا أن مناسبة زيارته جاءت تحت شعار في البدء كان الحوار، أما عن كونه غير محظوظ بسبب كون روايته فعلا متميزة، فالذي حصل سابقا أن أعمالا حظيت بسخط جهات معينة، ما دفع القراء إلى تلقفها سرا وعلانية، ودور النشر لإعادة طباعتها من دون استحقاق فني، إلا بفضل هؤلاء من مثيري الفتن، وكم من مرة صدمنا بالركاكة بفضل هذه الحملات الدعائية، ما جعل حتى محاولة التعرف على الأسباب المؤدية إلى منع عمل، أو ملاحقة صاحبه غير واردة، بسبب الصدمات السابقة، التي أفضت إلى عدم الظفر بنص هو على قدر من التميز الفني، وكأن العملية تمثل ضربا من ضروب التسويق البائسة.
إلا أن الأمر اللافت أننا لا نستطيع أن ندير مشكلاتنا بأنفسنا - هذا إذا افترضنا أن هذه الرواية الصغيرة مشكلة - ونحتاج على الدوام إلى تدخلات خارجية، ولا ننجح في إدارة حوار واحد للخروج من أزمة صغيرة - أو اختلاف في الرأي وهو الأدق - قبل أن تستفحل، وننتظر أحدهم ليتنطع بالتدخل، ويبدي امتعاضا من هذه التصرفات غير المسئولة، ويقول ما يقول، فنحرج ونكتشف الخطأ بعد فوات الأوان... ومن ثم نحاول - أو لا نحاول - التكفير عن هذا الذنب، من دون أن نتحرك سنتمترا واحدا لتلافي تكرار الأمر.
ولعل هذا الأمر قد أسهم في تنشيط ذاكرة صاحب الطبل الصفيح بما كان يجري في عصور الظلام عندهم هناك، فيشفق علينا، أو يسخر سيان... في حين أن هذه الثقافة قد شهدت من الاختلافات، ومن تضارب الآراء وقت عزتها، ما يفوق أية حضارة أخرى في إدارة الاختلاف.
وأختم هنا بحديث مختصر عن الرواية نفسها والتي وجدت فيها سخرية لاذعة، وحيوات مليئة بالتشرذم والتفكك، وأنماط إنسانية فريدة، وكمٍّ موفور من الإدانات الموزعة بالتساوي على الجميع، من دون أن يخص فئة على حساب أخرى، وإنما ثمة انحياز للفقراء، وتنقيب في أصل الموبقات التي يرزحون تحتها، من خلال شخصية «سعيدة» بطلة الرواية التي عانت الأمرين في طفولتها بسبب أخيها المتطرف، فقررت الهرب، حتى وقعت في براثن إحدى الشخصيات السادية، فيأتيها المخلص، والذي يقتل بدوره من والده... وتنتهي الرواية نهاية مفتوحة قابلة لكل الاحتمالات... إن مقولة هذه الرواية الرئيسية مبنية على تشييد طبقات لاذعة من المفارقات الصاخبة، لجهة التعاطف الذي يبديه الراوي مع سعيدة وأضرابها ممن عانوا في حياتهم على حساب نزعات شريرة في نفوس البشر... وسنعود لاحقا إلى تقديم قراءة مفصلة لهذه الرواية العجائبية... لكن الأهم هو أن كل الحجج المساقة بهدف قصف صاحب الرواية تتهافت الواحدة في إثر أختها بمجرد النظر إلى هذه الكتابة بوصفها كتابة أدبية لا أكثر ولا أقل
العدد 115 - الأحد 29 ديسمبر 2002م الموافق 24 شوال 1423هـ