العدد 1149 - الجمعة 28 أكتوبر 2005م الموافق 25 رمضان 1426هـ

من سرق الخيمة... يا ميليس؟

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قصيدة "مديح الظل العالي" واحدة من أهم قصائد محمود درويش، فيها يروي قصة الثورة الفلسطينية في لبنان وخروجها في العام 1982 عقب الاجتياح الاسرائيلي في ذاك العام. في القصيدة يسمي درويش بيروت بـ "خيمتنا" و"نجمتنا". الخيمة التي عناها الشاعر الكبير آنذاك هي غير الخيم التي نصبت اثناء الاعتصام الذي دعت اليه المنظمات الشبابية والقوى المعارضة للوجود السوري في لبنان مباشرة عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي طالبت بانسحاب القوات السورية من البلد. يومذاك اطلق البعض طرفة على هذه الخيم منها تلك التي تقول ان اثنين من المعتصمين كانا في خيمة وأثناء الليل استيقظ أحدهما ونبه رفيقه وقال له: "شو شايف"؟ رد الآخر: "شايف السماء والنجوم والقمر"، فقال الأول: "شو يعني"؟ رد الثاني: "يعني حرية وسيادة واستقلال"، فقال الأول: "يا أهبل، يعني سرقوا الخيمة". في تقرير ديتليف ميليس ثمة الكثير من الأسئلة التي قال الرجل انها بحاجة إلى اجوبة، وهو تحدث عن المتهمين الابرياء حتى تثبت ادانتهم، وفي الوقت ذاته، حصر الاتهام في مجموعة من الشخصيات والاجهزة اللبنانية والسورية. وقال إنه حذف بعض الفقرات والاسماء من التقرير حين علم انه سيوزع على وسائل الاعلام، وإنه تقرير مبدئي بانتظار استكمال التحقيق، الذي مدد له حتى 15 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. السؤال البديهي الذي يلمع في ذهن المواطن العادي ليس من المتهم وليس لماذا التركيز على جهة معينة وليس إذا كان التقرير مسيسا أو غير مسيس، انما هو إذا كانت سبعة أجهزة أمنية لبنانية وسورية متورطة في العملية، بالإضافة إلى تنظيمين أحدهما فلسطيني والآخر لبناني، وإذا جميع الأشخاص الواردة اسماؤهم في التقرير على دراية بعملية التحضير لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهم يخططون للعملية طوال أشهر، ألم يكن بينهم أي واحد دفعه الطمع وحب المال الى بيع الرئيس الحريري "رحمه الله" حياته؟ بمعنى آخر إن الفساد الذي عشعش في أجهزة الأمن اللبنانية والسورية العاملة في لبنان طوال 29 عاما، انعدم في تلك المرحلة إلى درجة ان الجميع أصبح مستقيما عسكريا ينفذ الأمر ومن ثم يعترض كما هو سائد في العلم العسكري والجميع التزم الصمت وعمل بإخلاص لقادته. وإذا كان الأمر على هذا النحو لماذا شككت مصادر في الأمم المتحدة بالشاهد الرئيسي في التحقيق السوري زهير صديق واعتبرته نصابا ويشترى بالمال والجميع يعرف ان الرئيس الحريري كان صاحب أياد بيضاء على الكثير من الناس؟ ولذلك، ألم يغتر أحد العاملين في مشروع مؤامرة الاغتيال بالمال ويعمل على بيع المشروع إلى الرئيس الحريري "رحمه الله"؟ لا يختلف اثنان على ان أجهزة الأمن السورية تدخلت في كل كبيرة وصغيرة في لبنان إلى درجة انها أجهضت الدولة وحولت البلد الى مزرعة تتقاسمها مجموعة من المنتفعين والفاسدين، ولا أحد ينكر أن جزءا من الدين اللبناني العام ذهب إلى جيوب هؤلاء المنتفعين. ولا أحد ينكر أن الرئيس رفيق الحريري كان مع سورية منذ بدء عمله في المجال العام وحتى أشهر قليلة قبل اغتياله. ولا أحد ينكر أن الأجهزة الأمنية السورية تتحمل مسئولية كبيرة في اغتيال الرئيس الشهيد، لكن في مؤامرة من هذا النوع يشارك فيها كل هؤلاء الذين وردت اسماؤهم في تقرير لجنة التحقيق الدولية لا يمكن ان يلتزم الجميع الصمت في بلد مثل لبنان أكثر الأسرار فيه سرية يعرفها على الأقل ربع الطاقم السياسي اللبناني! والكثير من مشروعات الاغتيال أحبطت قبل البدء في الاعداد لها، ومن قبل اجهزة أمن ميليشياوية أثناء الحرب اللبنانية، وكشفت شبكات تجسس من خلال التنصت على أجهزة الاتصال في لبنان، فلماذا سكت الجميع عن مؤامرة اغتيال الرئيس الحريري؟ ولماذا ترك الأمر إلى ان يصل إلى نهايته من دون ان يحرك أحد ساكنا؟ ولماذا باعت سورية وجودها في لبنان بعملية من هذا النوع كلها خسائر، وأقل الخسائر فيها ليس خروجها من لبنان انما فقدانها الحلفاء، وفقدانها السيطرة على الطاقم السياسي اللبناني؟ وهل هذا يعني ان سورية أقدمت على مغامرة طائشة ولم تحسبها بالشكل الصحيح؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن سورية كنظام تستحق العقاب والإدانة، اما اذا وراء الأكمة ما وراءها فإن الأمر يحتاج إلى قراءة عميقة. فهل النظام السوري مخترق مثلا في أعلى قمة الهرم، أم ان هناك من استخدم نظرية الاسطوانة "أي الاختراق المزدوج" في أجهزة الأمن السورية واستغلها إلى الآخر؟ وما السبب في الشهادات المرتبكة التي قدمت من قبل المسئولين السوريين إلى لجنة التحقيق؟ ولماذا سارعت مصادر في الأمم المتحدة إلى التشكيك بصدقية زهير صديق؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات منطقية ومقنعة لا إلى استنتاجات على شاكلة تلك التي اطلقت فور الإعلان عن صدور التقرير وقبل الاطلاع عليه من قبل الذين اطلقوا العنعنات في كل صوب واتجاه. على التقاطع بين شارع الوردية وشارع الحمراء في بيروت ثمة بائع اوراق يانصيب ويعمل في الوقت ذاته ماسح أحذية، وهو في المكان منذ العام ،1976 وقبل ذلك كان في الوسط التجاري لبيروت. هذا الرجل ابتلي في العام 1987 بصبي يعمل ماسح أحذية وأراد أن يجلس في المكان ذاته الذي يجلس فيه الرجل. في البداية، اعتبر الرجل وجود الصبي أمرا عاديا "لأن الأرزاق يقسمها رب العالمين" ولم يتخذ أي موقف منه. الصبي أراد أن يكسب الزبائن بسرعة فكان ينادي: "استاذ... استاذ تعال امسح لك صباطك وخليه يلمع مثل وجهك"، أو أحيانا يقول: "استاذ... البضاعة عندي أصلية وما بغش الزبون"، وأحيانا ينادي: "امسح صباطك بعشر ليرات وبعطيك حبة علكة هدية"! بعد فترة بسيطة وجد الرجل نفسه بلا عمل، إذ إن الزبائن تحولوا إلى الصبي، واحتار الرجل في الأمر، وفي النهاية توصل إلى فكرة شراء المكان من الصبي ودفع 500 ألف ليرة لبنانية خلوا ورحل الصبي عن المكان. أبوشكيب يتباهى ان كبار البلد وقفوا أمامه ولم يتحركوا "يا اخي الناس مقامات شو بدك شخصية كبيرة توقف قدام واحد جديد بالمصلحة؟ انا ابن مصلحة صار لي أكثر من أربعين سنة بشتغل بالمصلحة... ثلاثة أرباع السياسيين وقفوا محلك وحكوا قدامي اللي ما بينحكى... بعرف أسرار البلد... كنت أعرف أي متى الدولار راح يطلع وأي متى راح ينزل... بس العين بصيرة واليد قصيرة... واحد مثلي ما عنده مصاري "فلوس" كيف بيقدر يتاجر بالدولار؟". إذا كان أبوشكيب اشترى مكانه الذي احتله الصبي بـ 500 ألف ليرة ويعرف ثلاثة أرباع اسرار البلد، وإذا كانت مؤامرة اغتيال الحريري تطلبت كل هؤلاء لتنفيذها، ألا يعني ان أبوشكيب كان يعرف بأمر المؤامرة؟ وألا يعني ذلك ان اشادة الحكومة اللبنانية بالأجهزة الأمنية اللبنانية "أعلنت في البيان الذي صدر عن جلسة مجلس الوزراء التي أعقبت تسلم تقرير ميليس" التي شارك قادتها وبعض ضباطها وعناصرها في مؤامرة اغتيال شخصية بوزن الرئيس الشهيد رفيق الحريري ليست في مكانها، وان هذه الأجهزة بحاجة إلى حل وإعادة بناء من جديد؟ وألا يعني ذلك ان قيادات هذه الاجهزة تباع وتشترى بسهولة؟ وألا يعني هذا أن جميع السياسيين اللبنانيين ليسوا في مأمن طالما أن قادة الاجهزة الامنية محل اشتباه في مؤامرة اغتيال من هذا النوع؟ وألا يعني ذلك ان أية فتنة من السهل ان تشعل النار في هشيم الهشاشة الأمنية والسياسية في لبنان؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة، قبل ان تكمل لجنة التحقيق الدولية مهمتها التي تنتهي في الخامس عشر من ديسمبر المقبل حتى لا يسرق أحدهم خيمة الاستقرار المزغول في لبنان أو يجبر الشعب اللبناني على شراء وطنه مرة أخرى. وما لاشك فيه ان الثمن هذه المرة سيكون غاليا جدا ولن يقف عند حدود اتفاق وفاق وطني قابل للتعطيل كلما لاحت في الأفق بوادر أزمة، حتى وإن كانت أزمة تعيين رئيس بلدية في أية قرية لبنانية. وأما أن تكون سيادة وحرية واستقلال بكل ما في الحقيقة من معنى أو تكون وهم الشاب النائم الذي لم يتنبه إلى سرقة الخيمة فأخذ ينظر للسماء والنجوم والقمر ويستخدم الاسقاطات الايديولوجية في ذلك كما يحلو له! * كاتب لبناني مقيم في الكويت

العدد 1149 - الجمعة 28 أكتوبر 2005م الموافق 25 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً