من السابق لأوانه التنبؤ بنتائج "الحملة" التي يقودها المجلس الأعلى للمرأة في البحرين، لإصدار قانون الأحكام الأسرية، سواء ما سيتحقق منها على أرض الواقع أو ما ستخلفه الحملة من تداعيات وإفرازات وسط الأطراف المعنية. فكما نعلم أن مطالبة الجمعيات النسائية بإصدار قانون للأحوال الشخصية أصلا بدأت منذ عقد الثمانينات في القرن الماضي، إذ تشكلت لجنة لـ "الأحوال الشخصية" في العام ،1982 وتمركزت غايتها وجهودها الحثيثة على المطالبة بإصدار قانون موحد لأحكام الأسرة، فضلا عن إصلاح النظام القضائي لخدمة المرأة والأسرة، وتأصيل ثقافة الحقوق الأسرية بين أفراد المجتمع. ولاريب أن تلك اللجنة حققت وراكمت بعض الإنجازات، ولعبت دورا متميزا ومستمرا في استنهاض مبادرات بعض الأطراف الأخرى وحشدها، إلا أن جهودها المستمرة لم تثمر إلى الآن عن صدور القانون، ولاسيما أن الموقف الرسمي تجاه إصداره لم يكن داعما، بل ظل صامتا طوال الحقبة الماضية، ولم يتبلور ويأخذ مساره الجاد إلا مع تباشير المشروع الإصلاحي، الذي تبنى فيه وبجدية المجلس الأعلى للمرأة قضية إصدار القانون. من جهة أخرى، ما أن بدأت حملة المجلس الهادفة إلى لفت نظر الرأي العام البحريني للحاجة الماسة إلى قانون يؤطر الأحكام الشرعية وينظم الشئون الأسرية، وبمراعاة لمبادئ الشريعة الإسلامية، واستكمالا لمنظومة القضاء العادل تجاه قضايا الخلافات الأسرية، فضلا عن تعزيز مكانة المرأة البحرينية في أسرتها... أقول: ما أن بدأت "الحملة"، حتى عادت إلى الارتفاع والانتشار على السطح الأصوات ذاتها المعارضة لإصدار قانون الأسرة، وطرحت مبررات عدة جاءت في سياق الرفض، منها ما له علاقة بحقيقة طموحات المرأة، ومناقشة التشريع والأحكام الشرعية الكلية التي لها حساباتها الدقيقة. واتهمت "الحملة" بالالتفاف والمغالطة والتزوير، وأنها تريد خلق أحكام جديدة مخالفة للشرع. أيضا تمت المقاربة ما بين تمرير قانون الأسرة في ظل المجلس الوطني الحالي، وما بين تمرير قوانين وصفت بأنها جائرة، من مثل قانون الإرهاب، أو تنظيم عمل الجمعيات السياسية، وانتقد بشكل فاقع قصور الحكم في حل القضية الدستورية، وقضايا التجنيس، والفساد الإداري والسرقات والتمييز الطائفي، والبطالة وكل القوانين المكبلة للحريات والمتعلقة بالتجمعات والمسيرات. ولم تنج الدراسات والبحوث واستطلاعات الرأي التي تمت بشأن القانون من اتهامها باستدراج الشباب صوب قانون الأحوال الشخصية، في الوقت الذي يتجاهل فيه الحكم دور الشباب ويحاول إبعادهم عن المسرح السياسي. ثم أعقبها التلويح بـ 65 ألف توقيع رافض لإصدار القانون. المشهد غاية في الدقة والحساسية، وكذلك الانفعالية. بدورها الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة ردت في تصريح لها لـ "الوسط"، بأنها ترحب بأية ملاحظات اعتراضية يبديها علماء الدين على القانون من أجل تعديله، ومناقشتها، وبما يصب في مصلحة الأسرة البحرينية. وطالبت بالتعاطي مع كل الآراء بصورة إيجابية هادفة إلى تشكيل إجماع بشأن الأحكام الأسرية، والتزاما بما نصت عليه الشريعة الإسلامية واتفق عليه الفقهاء، وبما هو ثابت لدى المذهبين الشيعي والسني. أيضا، المتابع لما يدور في الساحة، يبحث متلفتا عن الدور المفقود والموقف الواضح للجمعيات النسائية صاحبة المبادرة بالمطالبة بهذا القانون. موقفها المفقود من ماذا؟ طبعا من "الحملة" التي يتزعمها المجلس الأعلى للمرأة. هناك انتقادات مباشرة وصريحة وجهت إليها لعدم تجاوبها، وكذلك لصمتها المطبق منذ بدء الحملة وما رافقها من هجوم واستنكار أو تأييد واستحسان. بعض الأصوات النسائية من الجمعيات كررت اللوم ذاته إلى دور المجلس المستمر في تهميشها وإقصائها عن المشهد العام، وتساءلت: كيف تكون حملة وطنية وهي بعيدة عن تحقيق مبدأ الشراكة مع الجمعيات النسائية؟! هذا ما جعل البعض يدعو بحرص إلى ضرورة تحرك الجميع وتكاتفه في تحريك ملف القانون وتهيئة المناخات والأجواء الاجتماعية لإصداره. الكاتب سعيد الحمد رأى أن العمل على إصدار هذا القانون قد يتعثر، وقد تطول الخطوات ما لم يقف الإسناد الشعبي العام خلفه وما لم يتفهمه على حقيقته وما لم يسهم عمليا في نشر الوعي بأهميته في تنظيم الحياة الأسرية ويضع الكثير من الأطراف على محك الكثير من الأسئلة. واعتبر مساندة الحملة مهمة وطنية ومسئولية ملحة ملقاة على عاتق الجميع من المجلس الأعلى للمرأة، إلى الجمعيات النسائية، وصولا للكتل النيابية والنواب، وأنه لا داعي للتردد والتأجيل. بدورها الكاتبة عصمت الموسوي ذكرت أن: "الحملة لا يجب أن تنسينا جهود من سبقونا من جمعيات نسائية ومن متطوعين ومتطوعات من هذا المجتمع، اشتغلوا منذ الثمانينات على قانون اشمل هو قانون الأحوال الشخصية، ونشروا القضايا وتواصلوا مع الإعلام، ومع القضاة والمحامين وقاموا بحملات مماثلة، لكن الزمن مختلف، ولم تحصل لجنة الأحوال الشخصية على الشرعية والمساندة اللازمة لأسباب عدة، وأن هناك مجموعة مخلصة تؤازر حملة اليوم لقانون الأسرة، باعتبار أنها إنجاز للأسرة". جمعية الوفاق الوطني الإسلامية أصدرت بيانا دعت فيه إلى ضرورة صوغ القانون وفقا للشريعة الإسلامية السمحاء وعلى أيدي اختصاصيين من العلماء والفقهاء، وألا يكون للمجالس المعينة من قبل الدولة أية سلطة في تغييره. هذا في الوقت الذي أكد فيه رئيس محكمة الاستئناف العليا الشرعية الجعفرية الشيخ حميد المبارك على أن القضاء بلا قانون وتقنين يعتبر فوضى تفقده ثقة المجتمع، ويضيق حق محاسبة القاضي والتفتيش على أحكامه، مشددا على أن افتقاد المرجعية القانونية في أحكام الأسرة يؤدي إلى صدور أحكام متضاربة ومتباينة في قضايا متشابهة، وهذا عيب في القضاء يسلب الثقة من القضاة ويؤدي إلى اهتزاز سمعة القضاء كمؤسسة. بالمقابل، أكد المبارك تفهمه لمخاوف المتحفظين "التي لا يجوز تسفيهها" بحسب تعبيره، وإنما تجاوزها بسبب حتمية التقنين وفق قاعدة التزاحم وتقديم الأهم على المهم، فنحن - والقول للشيخ المبارك - مضطرون للتضحية بالمصالح الأقل أهمية من أجل المصلحة الأهم. من جانبه، أشار المحامي عبدالله الشملاوي في ندوة له على هامش الحملة، إلى أنه سيكون للقانون صفة دستورية، فلن يعدل إلا بالكيفية والآلية التي يعدل بها الدستور، وستعتبر أي تدخلات غير شرعية فيه غير دستورية، وأن لمحكمة التمييز حق مراقبة تطبيق القانون وللمحكمة الدستورية مراقبة دستوريته. مما سبق، وإن رغب الجميع في الاحتفاظ ببعض من العقلانية والصدقية مع الذات، وبما تحمله من فكر وممارسة حرة له، سيكونون بحاجة إلى النظر بموضوعية في الآتي: 1- لا غضاضة أبدا من القول إن خطوة "الحملة" هي خطوة في الاتجاه السليم، وإن جهود الحملة وبرنامجها سيضيفون قيمة إلى ما تركته الجمعيات النسائية من رصيد يأتي في الختام لصالح إصدار قانون أحكام أسرية، وإن الزمن كفيل بكشف المزيد من نواحي الجدية أو التراخي أو الخوف أو الارتداد عن المطالبة به كقانون، بسبب المواقف المتزمتة من إصداره، سواء كان التراخي والارتداد من الجهة الرسمية أو مؤسسات المجتمع المدني والأهلي. آخذين في الاعتبار، التنامي المتسارع في فرض قيود تسلطية ومقيدة وكابحة لجماح حرية إبداء الرأي والحجر على التفكير والبحث والدراسة العلمية. كل ذلك يحدث بسبب خلط الأوراق ومزجها في فسيفساء ستطيل من فترة بقاء مجتمعنا في وضعية المراوحة والانتظار التي ستنعكس بلاريب في زيادة معاناة النساء المتضررات في أروقة القضاء والمحاكم. 2- نزعم بحاجة أصحاب الآراء المتنورة والديمقراطية إلى الرؤية والنظر البعيد لجدية وخطورة خلط أجندة المعارضة الدستورية وملفاتها ومقاربتها وكأن معارضة إصدار قانون للأسرة يأتي في سياقها. إن ذلك، وبحسب رأينا المتواضع، سيؤدي إلى فرز في أوساط النخب النسائية الناشطة في محيط التيارات المتنورة والديمقراطية، ولاسيما إذا ما تم التجاهل والالتفاف ثانية حول أولوية الأجندة النسائية، وإحراجها - أي تلك النخب - أمام الرأي العام كونها لا تستطيع التعبير مباشرة عن موقفها تجاه المعارضة الشديدة لإصدار قانون أحكام الأسرة، أو بالضغط عليها للقبول وعلى مضض فكرة تأجيل المطالبة بالقانون، كونه ليس ملحا ولا أولوية كما هو الإصلاح الدستوري. والإحراج أيضا سيمتد إلى الأصوات النسائية المتنورة في ساحة التيارات الدينية إذا ما استمر الرفض للقانون، وخصوصا أن التخوم غائبة ما بين أجندة بعض تلك النخب ومرجعياتها الدينية. والمرء يقف حائرا قبالة ادعاء هؤلاء النسوة عموما، بأنهن يتمتعن بالاستقلالية أو التحرر، وبضرورة استحقاقهن للحقوق، بينما يفتقدن حرية التعبير وباستقلالية عما يجول في فكرهن، ويتأخرن عن تقدم الصفوف للمساندة والمطالبة بأهم قانون قد ينصف المرأة ويمكنها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، حتى وإن كانت تلك المطالبة تأتي على قمة هرم أجندة النظام السياسي الرسمي. 3- بلا جدال، هناك تسييس لملف قانون أحكام الأسرة، كما لا تساورنا الشكوك بأن الحكم يدرك بالتمام قدرته في تحديد أين ومتى سيقوم بتدوير أوراق اللعب والتحكم فيها، كونه اللاعب الأوحد في الساحة، فغالبية الخطب السياسية التي أعلنت عن موقفها من القانون إلى الآن، قد قاربت أولوية إصداره، بأولوية معالجة العالق من الملفات السياسية الأخرى، وهو ما يجب سؤال النظام عن مدى جديته ومرونته في تقديم تنازلات تأتي في صالح المرأة والإصلاح السياسي، وخصوصا أنه في سباق زمني للإيفاء بالتزاماته بتنفيذ بنود الاتفاقات الدولية، وتحقيق نسب من التقدم على مستوى واقع المرأة البحرينية. وعليه، وعلى الجميع أن يعي، وهو فعلا يعي، حقيقة أن من سيدفع ثمن تأخر إصدار القانون، هن نساء البحرين "ما غيرهن"، سواء أكن معارضات أم مواليات، أم غالبية صامتة قابعة في منازلها تعاني... وتنتظر الفرج. * كاتبة بحرينية
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1149 - الجمعة 28 أكتوبر 2005م الموافق 25 رمضان 1426هـ