إشكالية كبرى بين مصلحة الصحيفة كمؤسسة مالية اقتصادية وربحية من جهة، وبين المصلحة العامة للمجتمع من جهة أخرى، هذا بالضرورة إذا اتفقنا على أن الوظيفة الرئيسية للصحافة هي خدمة الصالح العام، السؤال هو كيف تتم عملية الموازنة الفعلية بين الرؤيتين، بين المحافظة على الصحيفة كمؤسسة في صورة رأس مال مادي، وبين الوظيفة المجتمعية الأخلاقية لهذه المؤسسة؟ عملية صناعة القرار في ظل هذا المأزق تخضع الكثير من القواعد، وهذه القواعد ليست إلا لوائح من "الممنوع والمرغوب"، هي محاولة لصوغ منطقة وسطى تحفظ البقاء السوي للحقل الصحافي في مأمن واستمرارية. إلا أن تضارب المصالح أمر وارد، بل هو حد الشيوع المثير للقلق. بين قبول هدايا، والرحلات الترفيهية، وبين الارتباط السياسي والنشاطات الاجتماعية. فيما يتم إسقاطه على موضوعات ومصادر الأخبار وقضايا التلاعب بالصور الفوتوغرافية. هذا لا يعني بالضرورة إنهاء الرغبة الصادقة في صوغ أخلاقيات للمهنة، بمعنى الحفاظ على الرؤية الحقيقية للصحافة المدنية في توازن مزعوم مع حركة ومصالح الرأس مال للمؤسسات الصحافية. مجموعة قواعد صحيفة "ذي نيوز اند أوبزفر" الصادرة بولاية نورث كارولينا، وضعت الكثير من الصور الأخلاقية والقوانين التي ترى انها مدعاة لتعزيز مكانتها الاجتماعية والنهوض بحقيقتها الهادفة لخدمة الرأي العام. في بعض ما ورد من هذا الميثاق "علينا أن نكسب ثقة قرائنا. يجب أن يعلم القراء أن الصحيفة التي تصل إلى باب منزلهم كل صباح لم توجد لتخدم سياسيين من طراز معين، ولا مجموعات مصالح خاصة". أما مجموعة القواعد الأخلاقية التي تتبعها صحيفة أورلاندو سانتينل الصادرة في فلوريدا، فتورد الاهداف في صياغتها التالية "نسعى إلى الحقيقة ونقدمها الى القراء بأشمل تفصيل ممكن، ضمن ضغوط المواعيد المحددة، ونجهد لكتابة تقارير نظيفة، ومختصرة، وكاملة. إننا نبحث عن، وننشر، وجهات النظر المغايرة من دون التأثر الزائد برغبات من يمكنهم استخدام سلطتهم أو مركزهم". تنص أكثر الأخلاقيات الصحافية على الكثير من المبادئ التي تروج لها، إذ إن الصحافة المدنية تسعى إلى التعامل مع المصادر، والموضوعات، والزملاء كأناس يستحقون الاحترام وليس فقط كوسيلة لتحقيق الأهداف الصحافية. إنها "الصحافة المدنية" ملتزمة بنقل الحقيقة عن الأفراد والمجتمع والمؤسسات المالية بصدقية تلزم بها المحررين كافة.
تضارب المصالح
إن مسألة تضارب المصالح، التي تشمل الاستقلالية، والسلوك الشخصي، هي العنصر الأكثر شيوعا في القواعد الأخلاقية، والبحث في هذه الإشكاليات يعتبر منقصة كبرى في العالم العربي، فبينما تحتفظ الصحف الفرنسية والبريطانية والأميركية على مواثيق شرف خاصة عن "التعامل مع الصور الفوتوغرافية" تتنافس أجهزة الإعلام العربي على نشر صور مقطوعي الرؤوس ومسلوبي الثياب. تبقى إشكالية تضارب المصالح والأخلاقيات عاملا مؤرقا في الهرم الصحافي المؤسسي، لابد للصحافة العربية من مؤسسات فاعلة في سبيل الوصول الى صيغ مشتركة تخدم التنظير لأخلاقيات المهنة بالتعامل الذكي والبعيد مع كل الإشكاليات المطروحة والتي تنتقص من التجارب العربية في الصحافة والنشر. "سرية المصادر"، "استقلالية رأي المحرر"، "الحفاظ على خط واضح بين قسمي الإعلان والأخبار"، "توخي الحذر عند التعاون مع الحكومة أو المؤسسات الأخرى عن المشروعات الصحافية المختصة بالشأن العام"، وأخيرا "قضايا التعددية والعنصرية"، كلها ملفات أشبه "بالكهوف المظلمة"، لابد أن تكون لكل منها رؤية توفيقية واضحة بالطبع لا تنطوي هذه التوفيقة على أية تلفيقية عربية تفسد الأمر.
العنصرية التعددية
احدى المسائل الأكثر تحديا التي تواجهها الصحف هي التعامل مع قضايا التعددية، ومنها استخدام العرق كأداة تعريف، واعتماد الوصف النمطي للاعراق في التقارير الصحافية. الصحافة المدنية لا تعمد الى وصف الشخص بحسب عرقه، أو دينه، أو خلفيته الأثنية ما لم يكن ذلك ضروريا لسياق القصة الخبرية. "الصحافة المدنية" لا تذكر أوصاف المشتبه بارتكابهم جرائم، لا تستعمل الخصائص العرقية أو الاثنية ما لم تكن جزءا من وصف كامل للقصة الخبرية، وهي تعمد بالأخص تجاه رفض استعمال تلميحات لأي مراجع قد تكون مؤذية لمجموعة من الأقليات. فإذا وجدت بدائل غير مؤذية استعملتها. لابد من فرض التطبيق الإلزامي لهذه القواعد في "الصحافة المدنية". وتصنف الصحافة الأميركية والفرنسية الممنوعات في الصحافة الى طابعين، طابع المنع الأحمر لما تعتقد أنه إسقاط رهيب للأخلاقيات المهنية، وطابع اللون الأخضر "ذو الطابع الإرشادي" والذي يدعو الى الالتزام بلغة هادئة، إذ إن موضوعات البحث هي مواضيع خلافية متداخلة. إن الاعتماد على القواعد الأخلاقية هو نقطة منتصف الطريق بين الإخلاص الداخلي الغريزي وبين التفكير الأخلاقي والعقلاني. إن الطاعة العمياء للقواعد المقررة يساوي تقريبا الطاعة العمياء للسلطة أو التقاليد من دون مساءلتها. هذه القواعد والنظم الأخلاقية ليست الدواء الشافي لكل المآزق الأخلاقية في حقل الأخبار، أو في أي حقل إعمال آخر، كما أنها ليست الحلول لأزمة الصدقية
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1140 - الأربعاء 19 أكتوبر 2005م الموافق 16 رمضان 1426هـ