الحملة الإعلامية التي باشرتها الإدارة الأميركية لتحسين صورة أميركا في المنطقة وفي أوساط المسلمين في العالم ورصدت لها مئات الملايين من الدولارات بدأت تصطدم بجدر كثيرة. فهذه الحملة المتمثلة في خمسة أفلام قصيرة تعرض فيها سير مسلمين أميركيين يقولون «إن أميركا شكلت ملاذهم الأخير بعد النكسات التي أصيبوا فيها في أوطانهم»، وإعلانات في الصحف للأشخاص أنفسهم. هذه الحملة ترافق إطلاقها مع نقاشات ورفض من قبل الكثير من الدول ووسائل الإعلام العربية لتبنيها على رغم أن الإدارة الأميركية عرضت مبالغ كبيرة على وسائل الإعلام العربية لعرض الأشرطة كإعلانات تجارية. إذ قال لـ «الوسط» مسئول في إحدى الفضائيات العربية إن السفارة الأميركية في بلده عرضت مبلغ ربع مليون دولار لقاء قبول المحطة عرض هذه الأفلام القصيرة.
الأفلام الترويجية الخمسة عرضت حتى الآن في كل من أندونيسيا وماليزيا، وفي فضائيتي دبي وأبوظبي، وعرضتها أيضا محطة «إم بي سي»، فيما وافقت دولة الكويت على عرضها لاحقا. أما في الصحافة المكتوبة فقد نشرت الإعلانات الترويجية كل من صحيفة «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة». ولوحظ أن صحيفة «الحياة» نشرت لمرة واحدة إعلانا من هذه الإعلانات ثم انقطعت عن نشرها. الفضائيات المصرية، ومعظمها رسمي أو شبه رسمي، رفضت عرضها وكذلك الفضائيات في لبنان، علما بأن وزارة الإعلام اللبنانية أعلنت منع الفضائيات اللبنانية عرض هذه الأفلام. وحصل سجال بين وزير الإعلام غازي العريضي وتلفزيون «المستقبل» الذي يملكه رئيس الحكومة رفيق الحريري. فقد عرض «المستقبل» حلقة تلفزيونية استضاف فيها صحافيين لبنانيين ناقشوا الحملة الأميركية، عرضت خلالها الأفلام الترويجية وذلك بهدف نقاشها. وكذلك استقدمت السفارة الأميركية في بيروت المسلمين الأميركيين الذين أدوا أدوارا في الأفلام الترويجية المشاركة في البرنامج الذي بثه «المستقبل».
هذا الأمر أثار حفيظة وزير الإعلام اللبناني الذي وجه إنذارا إلى المحطة التي يملكها رئيس حكومته. أما السفارة الأميركية في بيروت فقد عادت ونظمت لقاء بين مواطنيها المسلمين الذين استقدمتهم إلى بيروت وبين إعلاميين لبنانيين بهدف نقاش الأفلام ومدى مساهمة هذا النوع من الترويج في تخفيف المشاعر المعادية للأميركيين في مجتمعات المنطقة.
يبدو في إنتاج الأفلام الترويجية اعتراف أميركي بأن مشاعر العداء للولايات المتحدة تتصاعد في المنطقة، وأن ثمة خطوات يجب أن تخطى للتخفيف من ذلك. ولكن في المقابل تبدي الأفلام جهلا كاملا بأسباب تعاظم هذه المشاعر. فعرض قصص من حياة المسلمين في أميركا يوحي وكأن مشاعر العداء للقطب العالمي الوحيد سببها حياة المسلمين فيها، علما بأن معظم أبناء المنطقة يعرفون أن الرفاه الذي يتمتع به المهاجرون إلى أميركا لا يوازيه رفاه في أية دولة في المنطقة. ولا شك في أننا جميعنا فكرنا في لحظة من حياتنا بالهجرة إلى تلك الأرض، ثم إن الكثير من أعضاء الشبكات «الإرهابية» اختاروا أميركا أو أوروبا للعيش فيها وهم تجندوا أصلا هناك.
وفي عرض أفلام لترويج الرفاه الأميركي والحريات التي تتمتع بها الجاليات المسلمة هناك دعوة للهجرة أيضا، وهذا من دون شك ما لا تقصده الإدارة الأميركية المتبرمة أصلا من تهافت اللاجئين إلى بلادها. ولكن أن تكون الحملة من السذاجة إلى حد تصيب معه أهدافا لا تقصدها فإن ذلك يؤكد التسرع الذي أنتجت فيه هذه الأفلام الذي وصل إلى حد التهديف على ما يناقض الغايات الأميركية من الحملة. فإنْ يقف رجل أميركي من أصل ليبي ليتحدث عن قصة نجاحه في أميركا، وعن إتاحة الدولة والمجتمع الأميركيين له فرصا لم تفتح له في بلاده فإن في ذلك دعوة صريحة إلى الهجرة إلى أميركا.
في الأفلام أيضا تعمية صريحة وواضحة لجهة أوضاع الجاليات المسلمة في أميركا بعد 11 سبتمبر/ أيلول، فتجاهل تعرض أبناء هذه الجالية للكثير من المضايقات يبدو ضربا من السذاجة، وخصوصا أن وسائل الإعلام الأميركية سبق أن أشارت إلى عشرات الاعتداءات والتحرشات التي تعرض لها أبناء الجاليات المسلمة، فكان الأجدى بالقائمين على هذه الحملة مثلا إبراز تصدي القوانين الأميركية للعابثين بأمن المسلمين، بدل تجاهل الموضوع من أصله، أو التحدث عن تضامن عائلات أميركية مع جيرانهم المسلمين الذين صاروا ضحية التمييز في المعاملة بعد 11 سبتمبر، وهو أمر حصل وأبرزته وسائل الإعلام في حينه.
هذا التجاهل سيضعف من دون شك من صدقية هذه الأفلام التي توجهت إلى رأي عام انشغل لأشهر بأخبار تعرض الجاليات المسلمة في أميركا للمضايقات. ثم إن التعاطي الساذج مع قضية على هذا القدر من التعقيد يؤدي إلى نتائج معاكسة، وخصوصا أن المزاج العام الذي تتصاعد مشاعر العداء لأميركا في خضمه يحتاج أصلا إلى تبرير تشريع عدد من القوانين الأميركية التي تضيق على المهاجرين المسلمين، في حين تكتفي الحملة الأميركية الإعلانية بتجاهل هذه الحقائق.
والمتأمل في مضمون الرسالة الأميركية التي ترغب الإدارة في إرسالها عبر هذه الأفلام لابد أن يلاحظ أن أميركا تعتبر أن سوء الفهم الكبير الذي يسود العلاقات الأميركية العربية مصدره العرب لوحدهم، والدليل أنها (أميركا) تحاول إقناعهم بنفسها من دون التطرق إلى موضوع سوء الفهم. فالأميركيون يعتبرون - على ما يبدو - أن الأزمة هي في شكل رسالتهم إلى العرب لا في مضمونها، ولهذا أقدموا على إنتاج هذه الأفلام من دون إبداء أية رغبة في تعديل السياسات. العداء لأميركا بحسبهم سببه عدم بث هذه الأفلام، وهم بعد بثها سينعمون بالتضامن العربي.
السياسات الأميركية في المنطقة في منأى عن أي تناول. وترويجها لا يتطلب من هذه الإدارة تعديلا. إنه الاعتبار الأول الذي تسبب في فشل الأفلام الدعائية. أميركا موجودة بقوة في قضايانا وفي منطقتنا، وهنا تشكلت مشاعر العداء ونمت. وحين فكر الأميركيون في استجداء تعاطف عربي خلال حملتهم على الإرهاب مثلا، لم يتنازلوا في مكان آخر. القضية الفلسطينية مثلا التي تشكل مركز المشاعر العربية، لم يكترث الأميركيون لهذه المسألة. هم يريدون تعاطفا عربيا من دون أن يعطوا أي مقابل. ففي حرب الخليج الثانية، لم تكن مشاعر المجتمعات العربية على هذا القدر من العداء، وكانت قضية احتلال العراق للكويت تسببت في مزيد من العداء للنظام العراقي، وعلى رغم هذا كله اضطرت إدارة الرئيس جورج بوش الأب إلى الضغط على «إسرائيل» لعدم الرد على القصف العراقي المدن الإسرائيلية، كما قامت هذه الإدارة بوقف مساعدات قررها الكونغرس الأميركي لإسرائيل، وكل هذا بهدف تفادي تجييش المشاعر وتفادي التضامن مع صدام حسين. الإدارة الحالية ترفض أي تنازل، لا بل تمعن في انحيازها لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تغيير المزاج العربي المعادي لسياساتها، فتكتفي بأفلام دعائية سريعة تعول عليها لتعديل المشاعر.
ويبدو أن الإدارة الأميركية أصيبت بشيء من أمراضنا في المنطقة، فالـ «بروباغندا» الدعائية الساذجة التي تضمرها هذه الأفلام، مهينة بلا شك لذكائنا نحن المتلقين المفترضين. ففي الحد الأدنى ثمة تجاهل كبير لمعارفنا وإدراكاتنا. إنها إهانة من ذلك النوع الذي تلحقه بنا السياسات الإعلامية الرسمية لدولنا. والمشكلة تصبح أكثر تعقيدا إذا ما كانت الإدارة الأميركية اقتنعت بجدوى هذه الوسائل وبقدرتها على تعديل الأمزجة، في وقت تراهن مجتمعاتنا من خلال احتكاكها بالتجارب الغربية على عكس ذلك، أي على اقتناع الجهات القائمة على الدعاية والإعلام بضرورة احترام عقول المواطنين.
الخبراء الإعلاميون والإعلانيون توقعوا أن تكون نتائج عرض هذه الأفلام على عكس ما تتوقعه الإدارة الأميركية، واعتبر أستاذ في علم الدعاية في الجامعة الأميركية في بيروت «أن هذه الأفلام تثبت عمق الجهل الذي يسود بعض دوائر وزارة الخارجية الأميركية لجهة مخاطبة مشاعر العرب والمسلمين»، ولاحظ المتابعون للسجال الذي أحدثه عرض هذه الأفلام المأزق الذي وقع فيه حتى حلفاء الولايات المتحدة والمنحازون لسياستها من حيث عدم تمكنهم من الدفاع عن هذه الأفلام وعن وظيفتها. ففي الحلقة التلفزيونية التي أعدت لنقاش الحملة الإعلامية الأميركية في تلفزيون «المستقبل» دعي صحافيون من المعروف أنهم غير معادين للسياسة الأميركية في المنطقة، ولكنهم أبدوا تبرما كبيرا حيال هذا المنتج الدعائي، بل إن بعضهم تفاجأ بالسذاجة التي حركت معديها.
وككل شيء أميركي تحدث الخبراء عن الكلفة الهائلة لهذه الأفلام، وخصوصا أن وزارة الإعلام الأميركية رصدت مبلغ بليون دولار لتحسين صورة أميركا بين المسلمين، خصص مبلغ 300 مليون دولار منها لإنتاج أفلام من هذا النوع.
ويبدو أن ردود الفعل السلبية على هذه الأفلام حتى من قبل حلفاء أميركا دفع بعض المسئولين عن الحملة إلى التأكيد أن هذه الأفلام هي بداية الحملة وليست نهايتها ووعدوا بالاستفادة من الملاحظات (كما أسموها) وبتغييرات في شكل الرسالة الدعائية لا في مضمونها. ولعل الخطوة الثانية التي أقدمت عليها وزارة الخارجية الأميركية والمتمثلة في استقدام المشاركين في الأفلام إلى المنطقة ليشرحوا للإعلاميين «حقيقة أميركا»، هي ما يعتقده المسئولون عن الحملة الخطوة الثانية في سياق برنامج تعديل صورة أميركا في أوساط المسلمين.
المأزق الذي وقع فيه القائمون على الحملة لم يقتصر على النتائج المخيبة التي حصدتها، بل امتد ليشمل اعترافات المشاركين فيها بضرورة العمل على تغيير أوضاع المسلمين في أميركا، إذ قال أميركي سوداني شارك في أحد الأفلام إن أميركا بعد 11 سبتمبر لم تعد كما كانت قبله، وهذا يتطلب من العرب والمسلمين فيها مزيدا من الانخراط في الحياة الأميركية ومزيدا من الحرص على تقديم الإسلام بطريقة مختلفة. هذا الكلام يؤكد مثلا وجود مشكلة تتفادى الأفلام التطرق إليها، وهو صادر عن مشارك فيها. أما الشاب الليبي الأصل الذي من الواضح أن كلامه هو ترديد تلقائي لتعليمات من مضيفيه، فقد تولت زوجته الواقفة إلى جواره تأكيد أن العرب الأميركيين يحاولون الضغط على الإدارة الأميركية لتغيير سياساتها تجاه «إسرائيل»، وهي إشارة ثانية إلى المفاصل الحقيقية (الخلل الموضعي) للعلاقات الأميركية العربية تفادت الأفلام الدعائية الخوض فيها.
الأفلام الأميركية الجديدة أضافت إلى سوء الفهم المتبادل بين العرب والأميركيين سوء فهم جديدا، وهو يتمثل في عجز أنظمة وقوى حليفة لأميركا عن تسويق هذا المنتج الأميركي الجديد، وفي الوقت الذي بدأت بعض الإدارات العربية بالاقتناع بعقم الـ «بروباغندا» الرسمية، لجأت الإدارة الأميركية إلى تقنية مشابهة لتسويق نفسها في أوساط يتزايد فيها العداء لسياساتها
العدد 114 - السبت 28 ديسمبر 2002م الموافق 23 شوال 1423هـ