العدد 1139 - الثلثاء 18 أكتوبر 2005م الموافق 15 رمضان 1426هـ

انفلونزا الطيور

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في القرن الرابع عشر الميلادي ضرب وباء الطاعون دول حوض البحر المتوسط وانتقل المرض إلى مختلف المناطق في أوروبا والديار الإسلامية حاصدا ملايين القتلى وفاتكا بالاقتصاد والحياة العامة. آنذاك انتقل الوباء من طريق التجارة والموانئ والقوافل وانتشر في المدن وانتقل منها إلى الأحياء والضواحي والقرى وقضى على أجيال من البشر وحصد بطريقه كل معالم العمران من زراعة وتجارة ولم يتوقف انتشاره إلا بعد أن مسح ربع سكان القارة الأوروبية. كذلك درس في أوج انتشاره الحياة الحضرية في بلاد الشام ومصر والمغرب ولم يبق إلا على نتف من البشر هنا وهناك. فالموت خيم وبسط نفوذه على الناس فقضى على العلماء والأئمة والقضاة ورجال الدولة والحرف والمهن وفرغ القرى الزاهية من سكانها فانهارت الزراعة والتجارة وتوقفت الصناعات وعم الكساد وتقلصت السلة الغذائية فدبت الفوضى وانتشر الفساد وازداد التنافس على ما تبقى من وسائل للعيش. هذا المشهد، مشهد الخراب الكبير، وصفه الكثير من المؤرخين الأوروبيين وتناقلته الأجيال في حكايات وصور مفزعة من الصعب تصديقها. فابن خلدون مثلا وصف الطاعون الدارس الذي قضى على نخبة أهل المغرب من أساتذة وفلاسفة ومفكرين وفقهاء في مقدمته وتاريخه واعتبره كارثة نزلت على المسلمين في ديارهم. فصاحب المقدمة اعتبر مرض الطاعون الجارف أحد أسباب خراب العمران في المغرب وبداية للانهيار والتفكك والانقسام والحروب الصغيرة. فالإنسان دخل في فترة خوف وقلق ولم يعد يعرف مستقبله وماذا يفعل وما مصيره حين كان يجد أهله وأصحابه والمكان الذي يعيش فيه يتفرغ يوميا من الناس. هذا المشهد الذي وصفه ابن خلدون في تاريخه ومقدمته ذكره أيضا المؤرخ الدمشقي ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية". فابن كثير عاين بلاد الشام في الفترة التي عاشها ابن خلدون تقريبا ووصف في تاريخه تلك المشاهد التي عايشها صاحب المقدمة في المغرب. فابن كثير كرر الكلام نفسه عن بلاد الشام ومدينته دمشق ووصف حالات الذعر والانهيار التي أصابت الصناعات والحرف والمهن والكوارث التي أحدثها وباء الطاعون وكيف جرف في طريقه العلماء والفقهاء والأئمة والقضاة وكل تلك الطاقات والسواعد التي تنتج وتعمل وتفكر. هذا البلاء الذي ضرب حوض الحضارات في البحر المتوسط في القرن الرابع عشر الميلادي كان نهاية عالم قديم وبداية عالم جديد. فالوباء تحدى الإنسان ودفعه نحو التفكير في مستقبله وما السبل الكفيلة بوقفه وإنقاذ ما تبقى من بشر. وتحت سقف المواجهة، نجحت أوروبا "أو بعضها" في اختراع أدوات النجاة والدخول في عالم المكتشفات الكيماوية واستخدام المختبرات كغرف لدراسة الكيفيات الواجب اتباعها للتعامل مع الموت الزاحف من كل مكان. ومن تحت أنقاض وباء الطاعون نهضت أوروبا جديدة تفكر علميا في طرق البحث عن خلاص لواقع مرير ومريض. توقف الطاعون عن انتشاره ولم تتوقف أوروبا عن تقدمها العلمي واستمرت في رحلة البحث المضني عن التطور في سياق تحديات متشعبة أعطتها أفضلية التقدم في السباق الحضاري بين البشر. مقابل هذا التقدم الأوروبي أصيبت الحضارة الإسلامية/ العربية بعد القرن الخامس عشر الميلادي بحال ذهول استمرت تتواصل إلى أن دخلت الأمة عصر الجمود والتخلف والاتكال على نتاجات الغير من علم وفكر وفلسفة وهندسة وصناعات واختراعات. فالطاعون كان من العلامات الظاهرة في التاريخ التي أسست لموجة متقدمة "المد" وأخرى متراجعة "الجزر". فأخذت أوروبا تتمدد والعالم الإسلامي ينحسر وينكمش ويتقوقع. الآن العالم أمام مرض وبائي جديد. والديار الإسلامية/ العربية معرضة مثل آسيا وأوروبا وأميركا لاحتمال انتشار "انفلونزا الطيور" في محيطاتها وأراضيها وأرزاقها وحواضرها. فهل تكون الأمة على مستوى المسئولية وتستعد لمواجهة هذا الموت الزاحف كما فعلت أوروبا سابقا ام نعيد تكرار مشاهد الوصف ونعدد تلك الحكايات التي ذكرها ابن خلدون في تاريخه عن بلاد المغرب وابن كثير في تاريخه عن المشرق وبلاد الشام. انه امتحان، والإنسان السوي والقوي لا يهاب ولا يجزع وإنما يحاول أن يبتكر الوسائل التي تسمح له بحماية النوع البشري من الانكماش وقطاعات العمل من التوقف عن الإنتاج والحياة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1139 - الثلثاء 18 أكتوبر 2005م الموافق 15 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً