صغارا كنا نلعب لعبة اسمها "عسكر تخليص"، أو كما يسميها البعض "عسكر وحرامية". وينقسم اللاعبون الى فريقين "العسكر" و"الحرامية" وعلى العسكر إلقاء القبض على الحرامية. وكلما اعتقل احد الحرامية يقف عند حد مرسوم أو الى الجدار إلى ان يستطيع فريقه تخليصه من بين أيدي العسكر. وعندما يعتقل الولد يصرخ من اعتقله "فلان حسوميس"، واعتقد ان هذه الكلمة مأخوذة من احدى اللغات القديمة التي كانت مستخدمة في بلاد الشام قديما، وربما كانت تعني "الصمت" أو "التوقف عن الاستمرار في الحديث"، لأن في العاميات الشامية لاتزال مفردة "حس" تعني "الصوت"، فيقال عن فرد غائب "لم يسمع له لا حس ولا خبر". وكانت تستخدم في هذه اللعبة تعبيرا عن التوقف عن اللعب أو ان الولد الذي سقط في يد العسكر أصبح في لغة العسكر محيدا، أي غير موجود. صغارا كنا نمضي الكثير من الوقت في هذه اللعبة وغيرها، وكنا نكثر من استخدام كلمة "حسوميس". اليوم تكاد هذه الألعاب تنقرض تحت وطأة الحضور القوي للالعاب الالكترونية مثل "الاتاري" و"البلي ستيشن" وغيرها من الالعاب التي لا اعرفها ويعرفها أطفال هذا الزمن. واليوم نحن في عز موسم "جوائز نوبل" وخصوصا أشهرها "جائزة نوبل للآداب" والعرب يرشحون انفسهم للفوز بها، على قاعدة "ان واهلي رضينا ببنت السلطان وباقي شغلة بسيطة وهي انا ترضى هي وأبوها بي". في الوقت ذاته تعلق مصائر بعض الشعوب العربية على طرف لسان بعض زعماء العالم، تماما كما هي حال لبنان المعلق الآن على رأس قلم ديتليف ميليس، المتوقع ان يعلن تقريره في 21 الشهر الجاري، أو يطلب تمديد مهمته الى 15 ديسمبر / كانون الأول المقبل، وكما جرت العادة فان "نوبل للآداب" تعلن في الخميس الاول من شهر اكتوبر/ تشرين اول، ولكن كما توقعت وكالة الصحافة الفرنسية فقد تأجل الاعلان عن الفائز بـ "نوبل للآداب" الى الشهر المقبل، وللمصادفة فإن 15 ديسمبر المقبل يصادف الخميس الثالث في ذلك الشهر، وربما سينتظر اللبنانيون ومعهم السوريون والكثير من العرب اما ان يفوزوا بـ "نوبل للسلامة والخلاص من الدوامة" أو العودة الى نوبل ما قبل الجائزة، أي عندما اخترع السويدي الفريد نوبل الديناميت، وان يفجر "ديناميت ميليس" لبنان والمنطقة، وبالتالي ننتظر سنوات طويلة حتى يأتي من يقول لنا "حسوميس" ونستريح من الدم والدمار بضع سنوات أو بضعة عقود وتتجدد لعبة "العسكر والحرامية" مرة أخرى كما هي عادة المنطقة. حتى الآن كل ما يظهر أمامنا يشبه الالعاب الحديثة، هذه الالعاب التي تقوم على مبدأ المراحل وفي نهاية كل مرحلة تظهر لنا عبارة "مبروك دخلت مرحلة جديدة" وهي ألعاب عبثية لا نهاية لها إذ تتوالد مراحلها الى ما لانهاية. اما في لعبة "عسكر تخليص" كانت هناك نهاية وهي انتصار فريق على آخر، واللذيذ في هذه اللعبة ان لا العسكر هم عسكر دائما ولا الحرامية هم حرامية دائما، بل فيها تبادل ادوار عادل الى حد ما. نحن في اللعبة الالكترونية دائما الفريق المهزوم، لاننا لم نصنع اللعبة ولم نتعلم أصولها فغالبيتنا تعلمت استخدام التكنولوجيا في سن متأخرة، ذهبنا إلى مدارس محو الأمية الالكترونية متأخرين جدا، ولأن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر فنحن في استخدام التكنولوجيا "نفك الخط" على رغم مهارتنا في بعض الالعاب او في تنضيد الحروف على لوحة مفاتيح الكمبيوتر. ولأن ما يجري الآن في المنطقة يخضع لشروط اللعبة الالكترونية لان مصمم اللعبة بات الكترونيا أكثر من اللازم، فإننا نمثل دور المشاهد أو بالأحرى الكومبارس في اللعبة، واللاعبون من حولنا كثر الى درجة لا نعرف من يقول لنا "حسوميس" كل مرة. بين "خميس نوبل" و"خميس ميليس" ثمة تقاطعات عدة اهمها اننا ننتظر النتيجة، تماما كما ينتظر التلميذ نتيجته آخر السنة من الاستاذ، فأما ان يكون ناجحا وينال من والده الهدية او يرسب، وفي هذه الحال لن يكون هو المقصر بل "الاستاذ لا يحبه"، لذلك وضع له علامات سيئة، تماما كما كنا نقول في صغرنا عندما لا نحصل على علامات جيدة! ومن التقاطعات ايضا ان كلا الخميسين "افرنجي" وكل "افرنجي برنجي وله رهجه" في العالم العربي، وما يأتي من الغرب يسر القلب دائما، وبالتالي أهملنا كل جوائزنا العربية وركزنا على "نوبل"، وأهملنا كل موروثنا الحضاري وركزنا على "النهضة الآتية الينا من الغرب"، ونسينا ان هذا الغرب هو من انشأ لنا أجهزة الاستخبارات عندما استعمرنا، وهو من انشأ لنا مراكز القوى في السلطة وتوزيع المغانم، وهو من شغلنا منذ أمد بعيد والى يومنا هذا بالصراعات الداخلية والمحاور الاقليمية، وهو من علمنا الرقابة على كل شيء بدءا من الرقابة على الصحف وانتهاء بالرقابة على شبكة الانترنت. واذا عدنا الى تراثنا الادبي لوجدنا ان في مرحلة ما قبل الاستعمار كان أدبنا ثريا جدا واكثر حرية مما نحن عليه الآن، وتكفي قصائد ابونواس وقيس وعروة والاعشى وابو الطيب "على رغم انه كان اكثر الناس مدحا للحكام" وغيرهم الكثير، وما علينا الا ان نضرب الصحافة الموريتانية مثلا التي تنتظر أعدادها يومين أو ثلاثة حتى تفرج عنها الرقابة في نواكشوط وبالتالي لا يعرف الموريتاني اخبار بلاده الا متأخرا! في هذه الحال نحن دائما الحرامية ولا مرة لعبنا دور العسكر ولهذا نحن متهمون دائما ولا يوجد من يخلصنا ولقد أصبحت "حسوميس " من المسلمات في حياتنا ولانعرف متى يسمح لنا فريق العسكر في ان نلعب دوره وهو يأخذ دورنا، ولو لمرة واحدة فقط حتى "نفش خلقنا ... يا جماعة"! لقد تعبنا من دخول المراحل الجديدة كل مرة ودائما نصل الى نهاية المرحلة في اللعبة الالكترونية ونقول انها آخر المراحل لكننا في آخرها نفاجأ ان هناك مرحلة جديدة. انني ارثي لحال طفلي ابن الاعوام العشرة، هذا الذي لا يعرف لا لعبة "الغميضة" ولا "عسكر تخليص" و"اللقيطة"، وانما يعرف "الاتاري" و"البلي ستيشن"، وهي ألعاب لا حركة فيها ما جعله بدينا و"ماله خلق" على الرياضة ولعب الالعاب القديمة التي كلها حركة ونشاط. جيل ابني يدرك ابعاد اللعبة الالكترونية الجديدة اكثر من جيلنا ولكنه لن يستطيع اللعب مع الكبار لان لعب الكبار لا مزاح فيه وخطأهم صواب دائما وصوابنا خطأ ونحن تعلمنا الفرنسية والانجليزية من المستعمر، بينما "خميس نوبل" يتحدث بالسويدية و"خميس ميليس" يتحدث بالألمانية، وللمصادفة فإن الرهان على جارين جغرافيا لا يفصل بينهما الا مساحة بحرية صغيرة، أي اننا نريد اكثر من مترجم في هذه الحال حتى يترجم لنا "حسوميس" كل واحد منهما، ربما ساعتئذ نعرف كيف نفهم لغة اساتذتنا المستعمرين ونعرف لماذا كان علينا ان ندرس جغرافية فرنسا وانجلترا اكثر من جغرافية بلداننا العربية، ونعرف عن نابليون بونابرت وماجلان اكثر من ابن بطوطة مثلا. في اغنية "توت... توت ع بيروت" التي يغنيها مارسيل خليفة وكتبها قريبنا محمد العبدالله يقول: "كذبوا علينا بالتاريخ... وطلعت الكذبة في"، ونحن طلعت كذبة التاريخ الذي تعلمناه فينا فلا ما قرأنا عنه في الكتب المدرسية كان صحيحا ولا ما نشاهده صحيحا وبتنا لا نعرف من نصدق! وبمناسبة ذكر بونابرت، تحضرني حادثة وقعت مع واحد من ابناء بلدتي "سأطلق عليه لقب الاكول لانه يحب الاكل كثيرا" قبل نحو عشرين عاما، اذ كان احد ابناء البلدة على خصومة مع قريب له وذهبا الى المحكمة في المدينة القريبة من بلدتنا، واحتاج احدهما الى شاهد يعرف عنه امام القاضي فذهب يبحث في سوق المدينة والتقى مصادفة الاكول فقال له احتاجك ان تشهد امام القاضي انك تعرفني، فقبل الرجل ولكنه في الطريق الى المحكمة خاف من عواقب امر الشهادة وحين امتثل امام القاضي وسأله الاخير: "هل تعرف هذا الرجل؟" اجاب: "اسمع عنه". فقال القاضي: "اتيت الى المحكمة لتشهد وانت تسمع عنه ولا تعرفه؟" فقال: "هل تعرف انت نابليون بونابرت؟ أجاب القاضي: "قرأت عنه" فعاجله الاكول: "انت قرأت عن نابليون وانا سمعت عن هذا الرجل... ما الفرق بيني وبينك؟... خذ بشهادتي اذن". اننا ننتظر "خميس نوبل" و "خميس ميليس"، ولا ندري أي خميس سيكون خميسا جيدا لنا لكن في نهاية الامر نريد من يخلصنا مما نحن فيه حتى نعرف كيف نترجم "حسوميس" أقله الى لغتنا أو نعود الى اكمال دراستنا في محو الامية الالكترونية ونتفقه اكثر في لعبة الحاضر، لكن علينا ان نتذكر ان في العالم العربي تبلغ نسبة الامية العادية 62 في المئة فكم تبلغ نسبة الامية الالكترونية والسياسية والثقافية؟ * صحافي لبناني مقيم في الكويت
العدد 1138 - الإثنين 17 أكتوبر 2005م الموافق 14 رمضان 1426هـ