هل يمكن، ولو في الخيال، مقاربة تصريح شخص مسئول كفاروق الشرع بتصريح أيمن الظواهري الرجل الثاني في القاعدة، لعل الجواب أنه من شبه المستحيل أن تتقارب الأفكار، إلا أن المتابع سيندهش إذ تقاطع الخطان غير الملتقيان في نقطة الإعلام. ولتفسير ذلك، فإن فاروق الشرع صرح اثر انتحار غازي كنعان أن من قتله هو الإعلام لأن الإعلام يطلق الرصاص أيضا. وقبل ذلك بأيام نشرت صحيفة "الشرق الأوسط" على صدر صفحتها الأولى تصريحا منسوبا للظواهري بشأن رسالة له للزرقاوي يقول فيها "إن أكثر من نصف المعركة إعلام". ليس الغرض من هذه المداخلة التدقيق في خلفيات انتحار غازي كنعان، ولا هي أيضا مناقشة الظواهري في أفكاره، الغرض منها الحديث عن الإعلام العربي، ومحاولة الإجابة على سؤال أو عدد من الأسئلة تؤرق كثيرا منا، وهي هل الإعلام مؤثر إلى هذه الدرجة حتى يعتبره رجل في خبرة فاروق الشرع "انه يطلق الرصاص" ويعتبره شخص آخر قادت أفكاره لهدم الكثير من البناء السياسي حول العالم أنه "أكثر من نصف المعركة"؟ أم أن ذلك تعبيرا مجازيا قد يكون مبالغا فيه إلى حد كبير؟ الأكثر إثارة في الموضوع أن صحيفة مثل الـ "سينس مونيتور"، وهي صحيفة أميركية تميل إلى الرزانة وعرفت بشيء من الدقة في نقلها الإخباري، تنشر خبرا تتحدث فيه عن أن "تنظيم القاعدة" يطلب من خلال عدد من المواقع الإلكترونية، محررين وكتابا لمواقعه الإلكترونية المختلفة! وتضيف أن الرسالة يجب أن تفهمها أميركا "ان هؤلاء الناس ليسوا من العصور الوسطى"! الإعلام يقع على نسيج اجتماعي واسع ومتعدد الدرجات، هذا النسيج يمتص كما يمتص الإسفنج ما يسكب عليه من مادة، فإن كان هذا النسيج محصنا أصبح التأثير فيه منعدما أو محدودا، وإن كان مفتوحا لتقبل كل ما يأتي إليه من مادة سيستقبلها ويتلون بلونها. ذلك هو توصيف علاقة النسيج الاجتماعي العربي بالإعلام أو المادة الإعلامية التي تسكب عليه. ان نظرية أن يكون هناك سروج محكمة تتحكم في حركة المجتمع ليرى ما يسمح له أن يرى، ويقرأ ما يسمح له أن يقرأ. هذه النظرية التي تسعى إلى حماية الجمهور "غير الناضج" هي التي تجعل من النسيج الاجتماعي العربي يتقبل التأثير من دون مقاومة ما يضخ إليه من أفكاره، أما النظرية الأخرى التي لم تختبر إلا في حدود ضيقة في فضائنا العربي، وهي أن البشر ليسوا خيولا ولا يحتاجون إلى سروج تكبح عقلهم بل يحتاجون إلى سراج ينيرها، هذه النظرية تقود ان طبقت إلى تقليل أو حتى انعدام التأثير القاتل للإعلام، أو اعتباره نصف المعارك المخاضة، ويصبح ما يبثه الإعلام وجهة نظر من بين وجهات نظر كثيرة. ولكن كيف يمكن أن يكون التحصين أو الإسراج بمعنى التنوير؟ الكثير من الدراسات والندوات عقدت للحديث عن الإعلام العربي، وليس صحيحا أنه لا توجد وصفات لمواجهة هذه "المعضلة" وهي التأثر السلبي بما يقال وينشر، فالوصفة جاهزة تختزل بكلمة واحدة هي الحرية، إذ إن أمراض الإعلام العربي معروفة تبدأ من ضعف الضوابط المهنية الذي يعود في جزء منها إلى حداثة الإعلام العربي، والإعلام التلفزيوني بصورة خاصة، إذ لايزال غضا في الكثير من مركباته، كما أن الإعلام التلفزيوني الذي انتشر أخيرا كالفطر أكثر فقرا من الناحية المهنية حتى من الإعلام المكتوب في تحديد الضوابط وتوخي الدقة، يدفعه في الكثير من الأحيان إلى الطرح السطحي، وعدم الموضوعية، ويعود كليا إلى افتقاد المهنية والحرية في تناول الموضوعات المطروحة. لقد استخدم الإعلام العربي شكليا بديلا للديمقراطية السياسية "الغائبة" في الفضاء العربي، فتخيل المشاهد أو المتلقي أو القارئ أن ما يراه على الشاشة أو يقرأه في الصحيفة هو فرض كفاية، ولأنه في الغالب محروم من الممارسة السياسية التي تأخذ وتعطي، تناقش وتفسر، وتفتح مدرسة لاستخدام الرأي والرأي الآخر. بعدم وجود ذلك يعتبر ما تأتي به وسائل الإعلام حقيقة مطلقة، يجب الأخذ بها وتبنيها. إن انتعاش المنافسة في الإعلام العربي خصوصا الفضائي، التي توظف فيه أموال ضخمة خاصة في الغالب، وشبه حكومية وحكومية، يجعله يلهث أمام الإثارة والسباق المحموم لتوظيف كل الغرائز والمنبهات الفئوية والمتطرفة لكسب جمهور مفترض لرسالته. وعندما تدقق في الرسالة تجد أنها مفرغة من أي محتوى عدى الإثارة الصاخبة. ولن يستطيع الإعلام العربي مهما تسلح بالإمكانات ومهما استفاد من تقنيات عصر المعلومات أن يؤدي الدور المطلوب منه، الدور التنموي الذي يقلبه من رصاصة إلى علبة دواء، ومن سرج مقيد إلى سراج منير، من دون وجود عملية إصلاح جذرية وشاملة لواقعنا العربي السياسي والتعليمي والثقافي. فكيف يقنع الناس بما هو صحيح ومقنع إن كانت حشيت أدمغتهم بما هو غير مقنع! الجمهور العربي ليس محصنا ضد تلك الإثارة والتحيز، لا من حيث التعليم المعتمد أساسا على التلقي، لا النقاش، ولا هو متاح له الممارسة السياسة التي تجعل التنافس في الشارع السياسي تنافس إقناع لا إرهاب، ولا في ملكية وإدارة وسائل الإعلام المختلفة المحتكرة في الغالب. فالدور المرجو من الإعلام العربي للتغيير والتنوير، هو دور مؤجل، ما نراه هو طمس وتزوير للحقائق وإشاعة للخرافة الاجتماعية والسياسية. حقيقة الأمر أن المتابع اليقظ يستطيع أن يلاحظ بسهولة عددا من المظاهر السلبية المصاحبة للإعلام العربي، وهي في جوهرها أن هناك مستويين من الإعلام، الأول هو الذي ينشر ويذاع، والآخر هو "إعلام الإشاعة" الذي يتداول بكثير من اليقين في كثير من المجتمعات العربية. والظاهرة الأخرى أن الإعلام الرسمي غالبا لا يصدق، ويبحث المتلقي عن تفسيرات خارج النص المذاع، فالقيمة المضافة للإعلام العربي تكاد تبلغ الصفر. قد يسارع البعض، حقا أو باطلا، ليتهم "قيادات" الإعلام العربي بالتقصير في الأداء العام لمهمتهم، إلا ان هناك ملفا آخر لا يناقش بتوسع في مجال الإعلام العربي، وهو ما يريد ويرغب الجمهور، فالجمهور يحدد أيضا سوية المنتج الإعلامي القابل للاستهلاك، وفي غياب دور للمدارس والجامعات في إشاعة التثقيف العام، يبقى الإعلام تابعا لما يرغبه الجمهور غير الواعي، فمهما جودنا في أدائنا الإعلامي يظل الجمهور العربي مدمنا تسرق عينه "الوجوه الحسنة" و"الكلمات الحماسية" وتشده "الخرافات". جمهور كهذا لا يتطور لديه الوعي للمطالبة بإعلام أفضل. ويصبح أمام متخذ القرار في وسائل الإعلام سؤال صعب وهو هل يحاول أن ينقل الجمهور إلى حال أفضل من الوعي مع التضحية بأن ينصرف عنه، أم يتوافق مع القائم من الرغبات ويضحي برسالة يظنها من صلب عمله؟ يقال إن العامل الكسول دائما ما يلوم أدواته، والإعلام أداة تحتاج إلى عامل نشط. * كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1138 - الإثنين 17 أكتوبر 2005م الموافق 14 رمضان 1426هـ