هل هي "استعانة بالخارج"، "إصلاح بالخارج"، "إصلاح من الخارج"، "عمالة للخارج"، تتعدد التمثلات في الخطاب السياسي العربي لتوصيف هذا الإجراء السياسي، ويبقى "الخارج" خارجا، والخارج ثقافيا قبل أن يكون سياسيا، هو ذلك المختلف، والعدو، والمحتل، والمترصد بالشر، إلا أنه قد يكون المساعد والصديق والشريك الاستراتيجي، فقط إذا كان يبقى متخذي القرار على كراسيهم المعتقة. الخارج هو الخطاب السياسي العربي، هو "الآخر" "خلاف العربي والمسلم". فثقافة العرب ومنتجهم الحضاري وليد الزمكان الإسلامي فقط، ولا شأن لهم بالعالم، إلا غزاة مدمرين للحضارات، لذلك تجدهم لا يمتلكون بديلا عالميا للبشرية، ولا تنتج مراكزهم البحثية أيما إشارات مهمة او فاعلة في هذا الصدد، لذلك فهم مثال صناعة الكراهية لمجرد الكراهية، والرفض لمجرد الرفض، والاعتداء لمجرد الاعتداء. لي أن أحاول في هذه القراءة السريعة، ان أبرهن أن الاصلاح يتم في "الداخل"، بل إن أي إصلاح سياسي عربي، هو مرهون بالخارج، تفعيلا وإنجازا. إن الحكومات، النظم العربية تؤسس لخطاب "تخوين" تلصقه بدعاة تفعيل مشاركة الخارج "الولايات المتحدة وأوربا" على وجه الخصوص، إلا أننا نلاحظ ازدواجية في القراءات السياسية الحاكمة، تنشط هذه الازداوجية، حين يكون "الخارج" تحديدا هو ركيزة بقاء النظم الحاكمة في مقار سلطتها وجبروتها.
مشاهد ازدواجية
أولا: يحاول الخطاب السياسي العربي تصوير أية نداءات تطلقها قوى المعارضة للدول الغربية بأنها نداءات خيانة واستقراء وركوع واستسلام للخارج، بينما لا تتوانى الدول العربية في طلب مساعدات "الخارج" لقمع شعوبها تارة، او للحفاظ على وحدتها الوطنية تارة أخرى، استعانة دول الخليج بالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا خوفا من نظام صدام حسين البائد .1991 ثانيا: تلزم أكثر النظم العربية أحزابها وتجمعاتها السياسية الشعبية برفض التبرعات من "الخارج"، كمصر والبحرين، بينما تسعى الدول إلى الاستفادة من قروض ومساعدات الدول المانحة، لدعم نظمها الاقتصادية والسياسية على حد سواء، بل إن الكثير من النماذج العربية لم تستطع الصمود أمام رغبات التغيير والإصلاح الجماهيرية، إلا عبر الاستقواء الخارجي. ثالثا: يغيب عن الخطاب السياسي العربي، ما يستجد اليوم في المجتمع الدولي، من تداخل بين مصالح الدول الكبرى المهيمنة، وبين "داخل" دول الشرق أوسطية تحديدا، ما يحيل إلى أن "الداخل" العربي هو "داخل" غربي، وأن المصالح الخارجية للإمبراطوريات الغربية، هي بالضرورة تدخلات في "الداخل" العربي، وإلا لما كان للولايات المتحدة أن تطلق مشروعها "الشرق الأوسط الكبير"، أو النسخة المعدلة منه "مشروع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". رابعا: ثمة رواج لاستقواء تمارسه الحكومات العربية تجاه تجمعات المعارضة، في رجمها ورفضها لأي إصلاح من الخارج تضغط المعارضة لتحقيقه، يقابل هذا الاستقواء خضوع أمام ما يسمى في الأعراف السياسية الدولية "التدخل في الشئون الداخلية"، لماذا لا تعمد الحكومات العربية إلى مخاطبة الدول "الخارج"، بأن لا تتدخل في شئونها الداخلية، لماذا لا تحاول مخاطبة هذه الدول ببساطة ومطالبتها بأن تلتزم بمقررات الشرعية الدولية في عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول. خامسا: ثمة قصر في الإدراك السياسي للحكومات العربية، فالداخل لا يحاول الخروج، الاستقواء، الاستعانة، النزوح، الاستغاثة بالخارج إلا عندما يصل إلى قناعة تامة بأن الداخل "مشلول الحركة"، او أنه "جامد معقد". إذن يكون المسبب الرئيس لتحول مجموعات المعارضة العربية إلى الخارج هو الداخل نفسه. سادسا: ثمة فارق كبير ومحوري بين "الإصلاح من الخارج" و"الإصلاح بالخارج"، الإصلاح من الخارج قد تلجأ له الدولة ذاتها، وقد يحتوي بعض المضامين السلبية على المجتمعات التي تناقش تحقيق فعل الإصلاح السياسي على أرضها، اما "الإصلاح بالخارج" فهو سلوك "مبرر" تاريخيا واجتماعيا وسياسيا في ضوء المعطيات الجديدة للسياسة الدولية.
المتحد المجتمعي بوصفه "خارجيا"
لكل مجتمع متحده الاجتماعي، ونعني بالمتحد الاجتماعي، تلك النقطة التي تجتمع فيها السلطات المكونة والفاعلة داخل المجتمع، في بدائية المجتمعات "القبائلية"، كان المتحد شيخا حكيما، أو صنما يعبد، أو حتى استفادة رعوية من واحة ماء في الصحراء.المجتمعات البسيطة، متحدها بسيط، وكلما تعقد المجتمع تعقدت ملامح متحده المجتمعي. لدينا نتيجة مهمة، وهي أن لكل مجتمع متحدا، يماثله في تعقيداته وتطوراته، وهكذا، تعرض علينا الكثير من النماذج التاريخية صورا للمتحد متأثرا أو قادما من الخارج، على أننا نرفض الانسياق نحو هذه الرؤية بما احتوته آخر القراءات السياسية في الولايات المتحدة تحديدا، إذ إننا نميل إلى الاعتقاد بأن المتحد المجتمعي اليوم، ليس متحدا داخليا على الإطلاق، بل هو في طبيعته وحقيقته المطلقة "متحد خارجي". إن أي متتبع للمكونات الرئيسة للكونية الجديدة، لابد أن يعي حجم المتغيرات السياسية والاجتماعية التي أصابت المجتمع الدولي، والتي هي تمثيل للخارج في كل تمثل سياسي يشتغل تحت وهم "الداخل"، عربيا تحديدا، أي حديث عن الإصلاح السياسي، هو حديث عن "الخارج" أكثر منه حديث عن "الداخل". وهذه نتيجة ثانية في سياق هذه القراءة، فحين نتحدث عن الإصلاح من الخارج، أو بالخارج، فإننا ببساطة نتحدث عن تكوين متحد مجتمعي جديد، يكون للخارج دور فيه، أو يكون الخارج تحديدا هو الفاعل الرئيس، والضابط الحقيقي لتكونه ونشأته. هذه العلاقة لا تفرضها أحادية الاتجاه في النماذج السياسية التقليدية، بل هي قراءة عكسية، فالنموذج الأميركي "الخارج"، حين يفرض إيقاعه السياسي على الإصلاحات السياسية العربية المستترة بمفهوم الإصلاح من "الداخل"، نجد أنه يتعرض لذات التأثير، فالقراءات السياسية الأميركية، والمتحد السياسي والاجتماعي الأميركي يؤمن بأن الخارج هو من ينظمه ويؤسس له، بمعنى أننا نحن "الخارج" الذي نؤثر فيه، سواء أدركنا هذه العلاقة أم لا، فهي قائمة. يرى هنتنغتون أن المتحد المجتمعي الجديد للمجتمع الأميركي يعتمد على صناعة مؤثر خارجي يلعب دور المتحد الجديد بعد نهاية الاتحاد السوفياتي، فالنظريات الاجتماعية لهنتنغتون كانت تركز على أن كل مجتمع من المجتمعات له متحد مجتمعي خاص، وكلما تعقد المجتمع تعقد المتحد الخاص به، لذلك يرى هنتنغتون عمليا ان المتحد الجديد هو مؤثرات خارجية بحتة، لا علاقة لها بالداخل الأميركي، هو الكراهية لذلك الغازي الجديد المدني للولايات المتحدة الأميركية. اللغة الإسبانية، المكسيكيون، الهويات الجديدة للنخب الاميركية الناتجة عن عولمة المنتج الاميركي، ووسائل الاتصال الحديثة والتي جعلت من الأميركيين الجدد عاجزين عن الانفكاك عن هوياتهم الأولى المؤسسة، ما أدى إلى صعوبة اندماجهم في الهوية الاميركية القائمة والجاهزة. يأتي محور العداء للإسلام كأهم المحاور التي يتطرق لها هنتنغتون، فالمسلمون يتدخلون في كل صراعات العالم، تجدهم في كل زاوية وبلد، وليست المسألة الفلسطينية سوى مسمار جح بالنسبة إليهم، فهم اطراف في أكثر الصراعات الكونية اليوم، بل إنهم لا يستطيعون الهدوء داخل كهوفهم المغلقة على أقل تقدير، فمشكلاتهم وأسلحتهم إن لم تقتل ذلك البعيد والمختلف، قتلت الآخر في ذات المنظومة الإسلامية. العداء لأميركا من قبل المسلمين قدر أميركي، والعداء لأميركا - كما يعتقد هنتنغتون - هو نتيجة إسلامية عربية غير رياضية، بمعنى أنها ليست خاضعة للتبرير العقلي، فهي نتاج قلق توسعي إسلامي، وهي تحديدا صورة الضعيف الذي ينكر على القوي قوته، لذلك، على الأميركيين أن يحاولوا تفهم الأمر بوضوح، وهي كما يعتقد هنتنغتون كراهية المسلمين لأميركا، ولا تقتصر هذه الكراهية على الإسلاميين، بل هي تشمل الليبراليين واليسار العربي والإسلامي. فليس الخطاب اليساري العربي أخف وطأة أو كراهية لأميركا. يحاول هنتنغتون أن يرفع ثوب الخجل عن الولايات المتحدة عن إبداء مواقف أكثر تطرفا تجاه المسلمين، وكأنه يستذكر مقولة أحد رؤساء الولايات المتحدة الأميركية "كارتر" إذ قال "علينا أن نتوقف عن لوم أنفسنا، كوننا الأقوى". وهو بذلك يدعو صراحة إلى تحديد دقيق لمتحد اجتماعي يتفق عليه الأميركيون في بدايات الألفية الثالثة، وهو العداء للإسلام والمسلمين. يؤكد سياق نتائجي، الكاتب علاء بيومي في مراجعته المهمة لكتاب صمويل هنتنغتون "من نحن"، ويضيف "على رغم أن هنتنغتون لا يرى أن الإسلام هو أحد التحديات الأساسية التي أدت إلى تراجع شعور الأميركيين بهويتهم الوطنية، فإنه يرى أن العداء للإسلام والحضارة الإسلامية قد يساعد بشكل كبير في تحقيق التفاف الأميركيين المنشود حول هويتهم الوطنية في المستقبل". خلاصة الفكرة يحددها هنتنغتون ذاته، إذ يقول "الإسلاميون المسلحون، المتدينون منهم والعلمانيون، يرون أميركا وشعبها ودينها وحضارتها أعداء للإسلام، والخيار الوحيد للأميركيين هو أن ينظروا لهؤلاء الإسلاميين المسلحين بأسلوب متشابه". ويضيف "ان الإسلاميين المسلحين يختلفون عن السوفيات في أنه لا توجد دولة واحدة تضمنهم كما أنهم لا يسعون لتقديم بديل سياسي واقتصادي عالمي للغرب كما فعل السوفيات، وذلك لأن هدفهم الأساسي هو تدمير الغرب".
نعم لمطرقة الإصلاح بالخارج
في خضم هذه النتائج التي وصلنا إليها حتى الآن، يتسنى لنا الإقرار بأن أي حديث عن "الإصلاح من الداخل" هو تمثيل "أوهام تاريخية"، ترتكز على مكونات ثقافية وسياسية بائدة، وأن الواقع الجديد للمجتمع الدولي، خصوصا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، يفرض حقيقة "الإصلاح بالخارج" بواقعية سياسية معتبرة. إن الإصلاح السياسي العربي قد بدأ بتأثير مباشر من مطرقة الخارج، وان المعني بالخارج في الخطاب السياسي بلا جدال هو "الولايات المتحدة الأميركية" و"المملكة المتحدة" على استحياء، ولابد أن تعي الحكومات العربية أن شعوبها لن تفوت استخدام هذه المطرقة الحديد. وعلى رغم هذا، مازالت بعض العناصر الاجتماعية تلعب دورا فاعلا في إبطاء عجلة الفاعلية لهذه المطرقة الإصلاحية، فنجد ان المكونات الدينية والثقافية العربية والإسلامية لها حضورها المعطل، كذلك تلعب حقيقة "مصالح المطرقة" دورها المثبط، فمطرقة الخارج لها مصالحها السياسية في تأسيسها للمتحدات المجتمعية الجديدة في الشرق الاوسط، بمعنى أن من يريد استخدام أو تفعيل ضربات مطرقة الخارج، لابد ان يكون واعيا لمتطلبات الخارج نفسه، والسؤال هو ما الذي تدفعه "تخسره" مجموعات المعارضة العربية في حال اعتمادها على خيار المطرقة الأنجلوسكسونية. ليس الخارج عنصرا محايدا، والمقصود أن أي إغفال متعمد تسلطه المعارضة العربية للخارج، يصنع فراغا مباشرا للخارج في خططه لرعاية مصالحه الاستراتيجية، فتكون الدولة "ذات الدولة" هي الشريك الوحيد "الحاضر" والراغب في التعاون والشراكة، وتصبح مجموعات المعارضة "خطرا" على "الخارج"، أو هي باختصار "تجمعات مخربين أصوليين"، إن خيار "الخارج" هنا يكون دلالة رئيسية على "مدنية" و"عالمية" سياسات المعارضة العربية، وباستبعاده تكون المعارضة العربية "بربرية". الإصلاح من الداخل "وهم"، و"مضيعة للوقت"، أو هو فرصة لمزيد من "الدكتاتورية المتمقرطة" في الداخل العربي، هذا ما أصبح جليا في التجارب العربية، باستثناء عسكري للعراق ودبلوماسي لقطر. وهذا ما يحيل إلى ذات الإشكاليات في الديمقراطيات المخادعة، والتي سبرها الألماني هابرماس في نقده للديمقراطيات الزائفة. الحقيقة أن "الإصلاح بالخارج" مازال بعيدا عن استراتيجيات المعارضة العربية، ما يحيل إلى أن الفرصة قد تمضي، أو أن تبدأ مطرقة "الخارج" التي تتعفف المعارضة العربية عن استعمالها في ممارسة دورها التاريخي الذي لا تخطأه، وهو ضرب رؤوس الشعوب العربية، وهذا ما نتوقعه، فإما أن تضرب بالمطرقة، أو أن تستعد برحابة صدر لأن تكون، تحتها.
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1137 - الأحد 16 أكتوبر 2005م الموافق 13 رمضان 1426هـ