"إن تاريخ الإنسان عار في عار!". .. "نيتشه" لا أعرف وجه الشبه بين قراءة بحثين فلسفيين عن "التسامح وأشياء أخرى..." لديمتري أفييرينوس، و"تأملات مفزعة في الأزلية" للناقد الفلسفي غسان بركات، وذلك الترابط بين غرفة رقمها "111" في السكن الجامعي بموسكو "جامعة الصداقة بين الشعوب بتريس لوممبا" التي يقطنها بحرينيون يطلق عليهم الطلبة في فترة السبعينات اسم: "الشلة الراكة". وهذه "الشلة الراكة" خليط بحريني، بعضهم مولع بالفلسفة ونقد الفلاسفة مثل "ي. ي"، إذ انتقد في مجلة "كلمات" روجيه جارودي، وبعضهم مولع بالتاريخ، مثل "ع. م" لتعمقه في فهم القرامطة والإسماعيليين وشغفه بقراءة الكتب؛ وآخرون من دون اهتمامات تذكر إلى يومنا هذا، وعلى رغم تخرجهم من كليات الحقوق وكليات أخرى، إلا أنهم لا يمارسون هذه المهن، بل انصرفوا إلى توجهات ليس من اختصاصهم، ولا يفقهون فيها، غير أن ظروف "التبليه" الوظيفي المتبعة في البلاد أسعفتهم لاعتلاء أعلى المناصب "واللهم لا حسد". منذ أيام دخلت شقة "ي. ي" في البحرين، وللمصادفة العمياء رقمها "11" وليس "111"، فتذكرت الأخيرة في موسكو عندما وجدث صديقه الشاب "إبراهيم" يشبه أحدهم في "111"، فقلت لـ "ي. ي": رقم شقتك ناقص واحد عن غرفة "الشلة الراكة" في موسكو؟ نعم سأضع "واحد أمام الـ "11" لتكتمل الصورة شكلا ومضمونا: فإبراهيم "بهيمي" مثلي ومثل الشلة الراكة: فكلنا بهيميون وإن لم ننتم! هذا هو "ي. ي" يفلسف الفلسفة كما كان: قراءة وبحثا وفكرا. إنه "دائما لا يغادر بيداء الكلمات لكي يدخل رياض الصمت" عندما كان طالبا، أو عندما كان مناضلا سياسيا في الحركة العمالية مع بدايات الانتفاضة العمالية في السبعينات وتأسيس اللجنة التأسيسية للعمال البحرينيين من التيارات الوطنية آنذاك. يهذي بكلمات غير مفهومة لإبراهيم، لكن هذا الأخير ينطق بشيء مشابه علمته إياه الحياة وتجاربها، وربما لصداقته الحميمة بـ "ي. ي". فهو يؤنسن كل شيء، ويتحدث بعمق، ويجادل "ي. ي" بلغة العارف لفلسفته ومعارفه التي تعلمها من بطون الكتب الفلسفية والفكرية. مفارقة غريبة وجدتها في إبراهيم، عندما سمعته يقول قولا مشابها لـ "ديمتري أفييرينوس" بلغة بسيطة كبساطته عن التسامح: "إن مصافحة بسيطة صادقة تنقل من الدين والسلوى الروحية أكثر بكثير من مئة خطبة أو موعظة مطنبة في الكلام. والتعاون المخلص نحو الغاية المشتركة هو أكثر المشاعر قبولا مما يستطيع الدين اليوم أن يدعو إليه في عالمنا المتألم. وحده هذا الشعور يمكن أن ينقلنا من "التسامح"، إذ أحب الآخر على رغم أنه مختلف عني، إلى القبول التام، إذ أحب الآخر لأنه مختلف عني". بادرت إبراهيم بإعجاب لحلو كلامه: أنت تريد الانتقال من "التسامح إلى القبول التام"، على رغم أنه لا مكان للتسامح ولا للقبول التام. أنا من فئة "ش" وأنت من فئة "س" ألا ترى قبولا تاما بيننا؟! بيننا أنا وأنت؟! نعم، لأننا "شينيان"، غير أن التسامح والقبول التام في الخطاب الفكري والديني ينطويان في الحقيقة على رياء مبطن. إذا، إنك تريد أن تقول إن الذين يقرأون الكتب يحلمون أو يكذبون، أما الذين يعون مصالح الوطن والمواطن من تجاربهم واحتكاكهم بالآخر أكثر صدقا وواقعية؟! بالضبط. الأمل والحلم يكمن في صحوة بعضهم على بعض من خلال الممارسة لـ "أنسنة" الطوائف والملل بين البشر، والحلم هنا يكبر كما عند الشهيد مارتن لوثركنغ حين قال ذات يوم عصيب في تاريخ بلاده: "أنا عندي حلم..."؟! قلت لإبراهيم: أخاف عليك مرتين: مرة من حلمك وأملك، ومرة من واقعيتك و"بهيميتك"، ولا أقصد هنا "حيوانيتك، أو همجيتك"، بل ألمك على الآخرين... أقسم لك إن حياتك ستكون قصيرة، وهذا الـ "ي. ي" سيفسد عليك الحياة بفلسفته المجنونة. أتعرف لماذا؟! لأنني أرى فيك ما قاله غسان بركات عن "فلاسفة الخلاص، وحكماء العقول لمساعدة الحياة، عبر مدرسة العمل، وخدمتها عبر الواجب"، وقد كتب يقول في هذا الصدد: "لقد سطع نجم حكماء عظام، قدموا للإنسانية حياتهم بكل سخاء وخلصوا مجتمعاتهم من الطغاة والجهل والتخلف. وقد كافأتهم الحياة عبر التلذذ بطريقة قتلهم! فبعضهم صلب وبعضهم تم تقطيعه كالشاة! وآخر أعدم أو أحرق! حملان الله كالمسيح وسقراط وغاندي والحلاج وغيرهم، ساروا إلى قدرهم المحتوم بكل محبة ورضا. تلامذتهم ساروا على دروبهم وقد بشرهم المسيح بقوله: "أنا أرسلكم حملانا بين ذئاب. وكما بغضني العالم سيبغضكم أيضا"! سقراط نصح تلامذته أن يخضعوا إلى قانون جائر خير لهم من أن يخضعوا إلى اللاقانون! غاندي نصح تلاميذه أن يمتصوا غضب الآخرين عن طريق الصبر على أذيتهم وحقدهم! يبدو، الكل هنا يبحث عن حقيقة مفقودة. ولا عقيدة أسمى من الحقيقة. والجميع يشتركون في "النسبية"، فهل آن الأوان أن نبحث عنها مشتركين حتى لو اتبعنا طريقة غاندي وتلامذت
العدد 1136 - السبت 15 أكتوبر 2005م الموافق 12 رمضان 1426هـ