حقيقة أولى، يقدر الإعلام العالمي الموجود في داخل الولايات المتحدة بحسب آخر الإحصاءات بنحو 40 في المئة، أما نسبة الكتب والإصدارات المعرفية فتقدر بنحو 84 في المئة. ومع هذا فشلت قناة "الحرة"، وإذاعة "سوا" في السيطرة على زمام الأمور في مواجهتما البسيطة مع الجزيرة "الخاصة"، ذات الإمكانات المحدودة نسبيا، هذا إذا ما تجاوزنا -تعمدا - أي إدعاءات أخرى في أسباب ظهور القناتين الأميركيتين خلاف تحجيم الجزيرة إعلاما وشعبية لدى المتلقي العربي. في الكتاب الأخير للكاتب الأميركي ستلوف "معركة الأفكار في الحرب ضد الإرهاب" حدد المفكر الأميركي ستة أخطاء للدبلوماسية الأميركية، وكان الفشل الأميركي إعلاميا هو أحد أهم الأسباب الرئيسية في فشل الدبلوماسية الأميركية في تعاملها مع الدول العربية والإسلامية. إن التعليل الأكثر دقة لمحاولة فهم هذا الإخفاق الأميركي هو اعتبار "قناة الحرة" و"إذاعة سوا" مجرد إجابات خاطئة على سؤال مركزي رئيسي، بمعنى أن الحكومة الأميركية لم تستطع في الحقيقة أن تجيب على سؤال الجزيرة الإعلامي، أو على تأثيرات هذا السؤال سواء على الصعيد الاجتماعي أو الصعيد السياسي العربي. لابد أن ثمة مفصلية تاريخية في الإعلام العربي مع ظهور قناة الجزيرة، ومهما كانت ردود الفعل متباينة سياسيا وإعلاميا حيال هذه القناة، فالجميع متفقون على أن الجزيرة أحدثت بما لا يدعو إلى الشك حراكا إعلاميا مدنيا طال شتى القطاعات الإعلامية العربية سواء الحكومية منها أو الخاصة. الاستراتيجية الدبلوماسية الإعلامية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير ضعيفة ومهترئة، وباتت غير قادرة على مسايرة البيئة السياسية الإقليمية وتعقيداتها الراهنة، هذا ما يحيل إلى أن الرأس مال الإعلامي الأميركي غير مستثمر استثمارا "عقلانيا" بالشكل المطلوب، لذلك، كانت ومازالت أدوات هذا الرأس مال الإعلامي "قناة الحرة وإذاعة سوا" تدور في حلقة مفرغة من مضيعة الوقت، مع جمهور يفتقد أي تفاعل إيجابي مع هذه الأدوات. تأسيس الإشكالية الإعلامية
لماذا نجحت الجزيرة؟
أولا: لقد كانت القنوات والمؤسسات الإعلامية العربية بعيدة على الدوام عن روح الحدث، وكانت تفتقد الجرأة، تارة نتيجة الضغوط السياسية التي تمارس عليها من قبل مالكيها ومصالحهم وتوجهاتهم الملحة، ونتيجة ضعف الإمكانات تارة أخرى، الجزيرة استطاعت أن ترفع هذا السقف من الحرية والتغطية الإعلامية العميقة المدعمة بالصورة وصولا إلى ما يشبه "دغدغة" نظريات المؤامرة، التي تسكن عقل المتلقي العربي بشكل جلي. ثانيا: القنوات الإعلامية العربية "الحكومية" كانت منبع الكوادر الإعلامية ومصدر المعلومات الأول في تطور الإعلام العربي ككل، والقنوات الفضائية - ومنها الجزيرة - ككوادر ومعدي برامج هي امتداد لها، إلا أنه امتداد تخلص من أي غطاء سياسي مباشر يتصف بالإلزام، تلك الكوادر استطاعت ان تجد في الجزيرة والقنوات الفضائية التي أتت بعدها مسرحا خصبا للإبداع الإعلامي والإنتاج. ثالثا: لم تكن الأجهزة الإعلامية العربية تمثل رسالة الإعلام الحقيقية بالصدقية والتناول الحر للقضايا الإخبارية، واللعب بالخطاب الإعلامي في الجزيرة خلق مجازات إعلامية جديدة على المشاهد العربي "ننقل لك الخبر بصدق"، "الرأي والرأي الآخر" هذه الثقافة الإعلامية الجديدة للجزيرة جعلتها قادرة على الرواج والمراهنة. رابعا: في الحقيقة لا تمثل القنوات الفضائية الجديدة وأجهزة الإعلام الحديثة الخاصة إخباريا "رسالة الإعلام الحقيقية"، فهناك الكثير من الشبهات التي تعتري تأسيسها وأهداف رسائلها الإعلامية، إلا أنها في المجمل تلعب "لعبة الجمهور"، والإعلام الناجح هو الإعلام الذي يراهن على الجمهور، لذلك كانت البرامج الحوارية في الجزيرة والمعتمدة على الجمهور الطريق الأقصر لها في المنافسة ولفت الانتباه. خامسا: لعبت القنوات الفضائية الخاصة على الصعيد الإخباري دورا مهما وكبيرا في تطوير أساليب التحرير والصوغ الإخباري في السنوات الثماني الماضية كما أنها خلقت روح التنافس بين القنوات الإعلامية في سبيل الوصول إلى السبق الإعلامي. هذا ما أطلق عليه نتيجة "إعلام السوق"، فالإعلام المنافس هو الإعلام القادر على الإنتاج والإبداع والتطور، أما الإعلام الواحدي فهو رمز الجمود والانغلاق.
لماذا أخفقت الحرة وسوا؟
أولا: لم تستطع الحرة أن تدرك اللعبة الإعلامية العربية، فلم تقدم للمشاهد العربي ما يجعله مقتنعا بأن الحرة تخدم قضاياه وتناقش احتياجاته، إذ إنها لعبت في استراتيجياتها الإعلامية دور المدافع أو المبرر للسياسات الأميركية. هذا البعد إذا ما أضفناه إلى المتخيل الثقافي العربي تجاه الولايات المتحدة خصوصا بعد حرب تحرير العراق فإنه يصنع من قناة الحرة أضحوكة شعبية، أو في أحسن الأحوال "مؤامرة أميركية جديدة". ثانيا: لم تقدم الحرة فضاء إعلاميا جديدا للمشاهد العربي، سواء على صعيد مستويات البرامج وعمقها في سبر الواقع العربي، أو على صعيد التقنيات الفنية في إخراج البرامج وإعدادها، كما أنها لم تعمد إلى استغلال تلك التقنيات الجاهزة في الإعلام الأميركي، فالحرة وسوا ولدتا قناتين مجهولتي الهوية مضمونا وشكليا، ما جعلهما في إشكالية تموضع إعلامي مركبة. ثالثا: لم تستشعر أي من قناتي الحرة وإذاعة سوا المركب الثقافي والسياسي لمشاهدي الجزيرة، بل لعلهما قامتا ببناء خططهما الاستراتيجية من وحي التوقع والحدس الإعلامي، وهذا ما يعود في الحقيقة بتأثيره على جميع البرامج الإعلامية الأميركية الموجهة للدول العربية في الشرق الأوسط الكبير، سواء عبر موقع الإعلام الخارجي للخارجية الأميركية أو مجلة "هاي"، وأخيرا القناة والإذاعة موضوع المقال. هذا ما انعكس سلبيا على مستوى الإدراك الجماهيري للحرة وسوا، فإذا كانت الجزيرة تؤسس لخيار تحرير فلسطين، ولعلها نتيجة تسويقية جيدة نسبيا بالنسبة إلى الجمهور العربي، فإن الحرة وسوا بقيتا من دون أهداف إجرائية ثابتة وواضحة، ما أحال المشاهد العربي إلى إلصاقهما ضمن المؤسسة السياسية الأميركية ككل، وهذا ما جعلهما مرفوضتين، وأبطل فلسفة وجودهما كمؤسستين ترويجيتين شارحتين مصححتين للإعلام العربي
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1134 - الخميس 13 أكتوبر 2005م الموافق 10 رمضان 1426هـ