العدد 1125 - الثلثاء 04 أكتوبر 2005م الموافق 01 رمضان 1426هـ

"بسطة" رأس رمانية...

أحمد البوسطة comments [at] alwasatnews.com

يجلسون على كراس خشبية من الحجم الطويل في مكان مربع الأضلاع يسمى "بسطة". شيبة وشباب يتجاذبون أطراف الحديث والنكات والتعليقات والذكريات الحلوة منها والمرة. قال أحدهم: هذا المكان، الذي تتجمعون فيه في كل ليلة حتى الساعات الأولى من خيوط الفجر، كان بحرا. وأقسم لكم انه في هذه البقعة بالضبط "مشعورة مملوءة بالخواليف" التي يا ما أدمت أرجلنا وجرحتها. وخلفنا، تلك الأرض "البراحة" الملاصقة لمدرسة سكينة بنت الحسين، والتي كانت ملاصقة لمحطة الكهرباء "ولا نعرف من يملكها الآن، ولكن بالتأكيد ليس من رأس الرمان"، كانت ساحلنا "السيف" ننطلق منها إلى البحر ونعوم في مياهه الدافئة. أشار بسبابته نحو الأرض المقابلة للمسجد الكبير، وقال: هناك كنا "ننبر الدود البحري" عندما تكون "المايه رايحة" "أوقات الجزر". أما الساحة الكبيرة التي يفصلها الشارع المؤدي إلى المنطقة الدبلوماسية، كانت مرتعا لنا في صيد جميع أنواع السمك حتى المنقرض، أو كاد ينقرض الآن. سأله فضولي لاستفزازه: أبوعلي، من مالك هذه الساحة الكبيرة؟! رد بلهجة رأس رمانية قحة: "أنه وش دراني، وش قالو لك عسبالك أشتغل في التسجيل العقاري! أكيد حق واحد من لكبار، يعني حق أبوك لو أبويي؟! ثم تأفف ولعن الذي كان السبب". لكنه كان يكذب. برهوه "إبراهيم" بعد أن توقف عن الضحك سأل أباعلي: هل تحب رأس الرمان؟ رد بالفصحى وكأنه قرأ رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، قائلا: "هنا ولدت وهنا عمت في هذا البحر وسبحت بين بر وخور إلى البر الثالث، وهنا تفتحت عيناي على البحر، وأطال الله في عمري، لأرى المباني الإسمنتية في المنطقة الدبلوماسية على بحرنا..."، ثم تمتم بكلمات غير مسموعة وفي داخله غصة منعته عن الكلام. كان رده جميلا ذكرني بمقطع حوار بين آسيا ومهدي جواد في "وليمة لأعشاب البحر" - نشيد الموت - تجيب فيه آسيا على سؤال مهدي عن حبها لمدينة "بونه" الجزائرية: "هنا ولدت وهنا شربت أول قطرة حليب. في بونه بللني أول مطر وصفعتني أول اشراقة للشمس. أول بحر عمت فيه هو بحر بونه الدافئ، وأول أم كانت لالا فضيلة، وأول أب كان سي العربي". وعندما تسأل آسيا مهدي جواد عن حنينه للبصرة، يرد بأن "جميع المدن تتساوى في النهاية، كل مكان بحار وشموس وحجارة وضوضاء وبشر وذكريات وأكاذيب. وكان يكذب" "ص 58" سألت أباعلي: يبدو انك قرأت رواية "وليمة لأعشاب البحر"! فأجاب: يا ولدي، لو كنت أعرف القراءة والكتابة لما سمحت لأحد أن يدفن بحرنا، وصرخت بأعلى صوتي في وجههم: أيها الدافنون توقفوا! بسطة رأس الرمان تقع في نهاية البيوت العتيقة لأهالي المنطقة، ويلتقي فيها شباب ينادونهم بأسماء مستعارة مثل: "الهامور، الحوت، والبوبره، العبد بكسر الباء، والعبد بسكون الباء، وبوريره، وبيت الفله، والمكحل، وبيت الطبق، والشرارة، وعلاية، وحلوب والفارة والتليح وبيت الكلج، والديج، والتتو، وجبح، والدوده والدبوس وجوني، والدندون، ولرويده، والحمرة، وبقوان، والعوعو، والفرش بضم الفاء، واللحف، والبوج، والنكنوك... إلى آخره من الأسماء العجيبة والغريبة"، ولكل واحد من هؤلاء قصة أو قصص، وحكايات اجتماعية وسياسية، وطبعا اقتصادية، لكنهم جميعا تجمعهم البساطة والطيبة والعفوية. بعضهم دخل السجون، والبعض منهم لم يتذوق "لشطة الهوز"، وكان أبوجعفر يردد مقولة مأثورة تعلمها في السجن عندما كان معتقلا فترة حوادث التسعينات يقول فيها: "خطط لها احتقان الشارع، ونفذها الأوفياء، واستفاد منها الجبناء"، وهو يشير بسبابته إلى أحد الجالسين الذي لم يقع في قبضة الشرطة آنذاك، فيضحك الجميع. شقيقه برهوه، ويلقبونه بالعبد بسكون الباء، من العاطلين عن العمل، وتعرض للضرب في كل الاعتصامات "المقموعة"، أمام الديوان، وفي المركز، وأمام البرلمان، "في اعتصام "البيض الفاسد والطماطة" وكان لا يحمل لا بيضة ولا طماطية". ويحكي انه تجادل مع مسئول بلدي أخذ على عاتقه مهمة تشغيل العاطلين عندما تأخر في إيجاد وظيفة له يطعم بها أطفاله قائلا للمسئول: "احنه يضربونه وينتفونه من الضرب وتشغل غيرنه من ربعك، والله خراطه!". ولبرهوه حكاية طريفة عن سيارة اشتراها بـ 150 دينارا من هندي، وأراد تسجيلها في المرور، غير انه فشل في فحصها لمدة أربع شهور، فقد خسر على تصليحها ما يقارب 450 دينارا، ففي كل جولة له مع المرور يخلقون عذرا لعدم تمريرها. مرة يقولون له صلح "الرودات"، فيصلحها، ومرة أخرى تحتاج إلى "صباغة"، فصبغها بيده، واحتج المرور على ذلك، فبعثها إلى كراج "السمكرة والصباغة"، فاحتجوا بعد أربعة شهور بأن سيارته فيها "دخنة في الكزوز"، فنفد صبره فقام بتهشيمها في مكان الفحص، وكاد أن يحرقها إلا أن الدماء سالت من يديه، فنقلوه إلى المستشفي للعلاج. والأنكى من ذلك، انه نسى محفظة النقود في "بي تي" السيارة المهشمة، فعاد إلى المرور فقالوا له ان سيارتك في "اليارد"، ومحفظتك عند الضابط، فذهب إلى الضابط فأعطاه محفظته، وسأله لماذا فعلت ذلك؟! فحكا حكايته مع مرور الفحص، فوعده الضابط بتصليحها على حساب الدولة، لكنه اكتشف أن "برهوه" لم ينقلها بعد إلى اسمه في إدارة المرور، فقال له: إنها ليست سيارتك! فقال: كيف ليست سيارتي وأنا دفعت ثمنها 150 دينارا؟! فرد الضابط: لأنها ببساطة لم تنقل ملكيتها إلى اسمك من المالك السابق! عاد "برهوه" بالسيارة، ورماها في البحر لتكون "مشد" لقراقيره تحت شعار: "الغنى ما منستغنه... والفقر محد لاحقنه عليه!"

العدد 1125 - الثلثاء 04 أكتوبر 2005م الموافق 01 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً