لكل منظومة سياسية طموحها، والطموح هو ما يتمثل للمتابع من شخوص الطامحين، سواء عبر متابعة وفهم خطابها السياسي أو مراقبة الجسم السياسي للمنظومة ومخرجاته الفعلية. المسرح السياسي الحكومي في التجربة الإصلاحية البحرينية كان ضحية ما أسميه مواربة "قصر الطموح"، هذه شهادة أولى أشبه بالهروب عن الزعم بأن ثمة شخوص سياسية حكومية تلعب هذا الدور الكابح للطموح عن رغبة متعمدة وتقصد مسبق. قصر الطموح يتمثل إجرائيا على صعيد التجربة الإصلاحية البحرينية بشكل جيد في الشكل الخارجي، إلا أنه ينبئ في حقيقته الداخلية بأزمات قد تتعملق في أية لحظة، هذا تحديدا ما يشبه القطف السريع لثمار الديمقراطية، إلا أن ثمة غابة مليئة بالأخطار تنتظر ببساطة أن تحترق هي بباقي الثمار المأمول قطافها. بعد المشروع الإصلاحي، استطاعت الحكومة أن تصنع لنفسها صورة دولية مميزة، فمجمل الخطاب السياسي الدولي هو في موضع إشادة دائمة بالتجربة الإصلاحية البحرينية، والبحرين اليوم هي مضرب المثل في الانتقال نحو الديمقراطية والإصلاح السياسي، كما أن رؤوس الأموال بدأت فعلا في تجاوز العملاقة دبي لتسكن المنامة، إلا أن مجمل الحراك الإجتماعي والسياسي الداخلي البحريني لا يسير في المطلق على هذا السياق المبالغ في المتفائل، بمعنى أن ثمة تناقض وتباين بين صورة البحرين في الخارج، وصورتها في الداخل المحموم بالاعتصامات والتظاهرات، تبقى ظاهرة التظاهرات والاعتصامات في مجملها "ظاهرة مدنية" لا يخاف منها إلا المتأزمون بالتاريخ ومصالحهم القابعة هناك، وهذه الظاهرة في حقيقتها لم تنتج حتى اليوم صورة سلبية للبحرين خصوصا على الصعيد الدولي على الأقل. إلا أنها إن لم تعالج بجدية من قبل الحكومة فإنها ببساطة "قنبلة موقوتة" تنام عليها البلاد من دون دراية من أحد، ليست الصورة تذهب إلى التنبؤ بالكارثة، إلا أن ثمة - خصوصا في أجهزة الصحافة البحرينية - عناصر خطرة على المشروع الإصلاحي، أكثر من خطورة من هم داخل الحكومة. الحكومة أخفقت استراتيجيا في الكثير من المشاهد السياسية، وقبل سردها ودراستها لابد من الانتباه إلى أن الحكومة في واقع مسرحها السياسي سرقت كامل نصوص المعارضة التسعينية، بمعنى، أنها اليوم أصبحت من يرفع شعارات المعارضة آنذاك، الحكومة اليوم هي من تروج للحرية، والديمقراطية، والبرلمانية، والتوزيع العادل للثروات، ومحاربة الفساد، وتأسيس مجالس التنمية السياسية والديمقراطية، وهي لم تترك للمعارضة أية مساحة للعمل السياسي سوى أن تتعلق بملفها اللغم "الملف الدستوري"، فالسرقة أتت على المسروق بمناحة وصراخ من العيار الثقيل، والذي أصبح من الواضح انه من الصعب ان تتحمله آذان الجمهور، فضلا عن آذان الحكومة نفسها. إن أهم الأخطاء الاستراتيجية الحكومية تتمحور في السياق الآتي: أولا: الأم تغتال وليدها، لم تتنبه الحكومة إلى خطورة إسقاطها المتعمد لكثير من الاقتراحات البرلمانية في التجربة البرلمانية الجديدة، تارة كانت تعمل أدواتها الداخلية في سبيل إضعاف منتجاته، وتارة اخرى كانت تلعب بأدواتها الإضافية "مجلس الشورى، تمرير بعض القوانين والاقتراحات الشخصية". وهذا الخيار مشابه لخيار من يهدم بيته على رأسه! لقد عمقت الدولة من قوة خطاب المعارضة في أن المجلس التشريعي - مجلس معوق- وكانت الدولة قادرة على أن تقلب الطاولة على رأس المعارضة، وكان باستطاعتها أن تجعل الجمعيات المعارضة في منطقة أكثر حرجا مما هي عليه الآن، إلا أنها لم تفعل، لحكمة نستطيع أن نعلمها. ثانيا: لم تتنبه الحكومة إلى خطورة أن تكون بنفسها ضحية التجربة شعبيا، لم تقم الدولة بإعادة هيكلة نظامها الإداري بما يتوافق مع المرحلة السياسية الجديدة، ما أدى إلى إحراجها في أكثر من مرة في ملفات فساد "التأمينات - التقاعد" ولم تكن دفاعات الحكومة مقنعة للشارع البتة، وأضطرت إلى أن تقوم بعقد تسويات سياسية مع البرلمان، وقد تكون الحكومة نجحت فعلا في إبرامها لهذه الصفقات والتسويات سياسيا، لكنها خسرت الكثير على الرصيد الجماهيري، ما جر طيفا كبيرا من الشارع البحريني إلى الاقتناع بأنها - الحكومة - هي المسئول الأول والأخير عن جميع الملفات الوطنية الشائكة. من الواضح أن الحكومة لم تشهد تغييرات جذرية تنبئ بمرحلة جديدة، بقت الوجوه ذاتها، سواء في مرحلة ما قبل الإصلاح السياسي أو بعده، مع بعض الرتوش التي لا تسمن من جوع، ما جعل من المشاهد المهمة في المسرح السياسي الحكومي ثابتة وغير مقنعة للمشاهدين. على صعيد الأداء الحكومي في المؤسسات والهيئات والوزارات الحكومية مازالت العقليات القديمة في إدارة العلاقات الجماهيرية من دون المستوى والطموحات، ومازالت الكفاءات الحقيقية مهمشة أو مجهولة. لم تستطع الحكومة ترويج صورتها كحكومة عهد جديد، ولهذا كان خطأها في هذا السياق "استراتيجيا" لا تجدي معه بعض التعديلات في التكتيكات. ثالثا: لم تسع الحكومة لفتح قنوات حوار مثمرة مع المعارضة، إن انقطاع الحوار والبقاء على وتيرة الرسائل المشفرة بين الحكومة والمعارضة "قانون جديد تقابله مسيرة كبيرة" أدى فيما يبدو إلى مزيد من الانقطاع للثقة بين كل الأطراف، والصحافة "السلبية" لعبت دورا بارزا في تعميق هذه الحال من القلق وانعدام الثقة. لابد أن الجمود الحركي من قبل ممثلي المسرح السياسي الحكومي أعطى الجمعيات المقاطعة الفرصة لأن تؤسس رسالة شعبية مفادها ان الحكومة ليست جادة البتة في الحوار والمكاشفة والوصول لحلول ولو مرحلية للإشكالات القائمة على شتى الملفات السياسية. رابعا: إن الحكومة استراتيجيا تتخذ زاوية بعيدة عن مجمل الحراك السياسي الداخلي، كمثال بسيط، لنا أن نتابع جمودها وردود فعلها الباردة لما يحدث داخل مؤسسات المعارضة من انشقاقات وحوارات داخلية، فهي لا تدعم من يقترب لها ويحاول البحث عن مناطق حرة للحوار والتسوية، وهذا الخيار الصامت يجعل الأمور أكثر تعقيدا، لنا أن نتنبأ أن ما تم حديثا "انشقاق البعض عن جمعية الوفاق الإسلامية" هو خروج عن نص المسرحية السياسية البحرينية، وأن الدولة كانت متفاجئة كأي ممثل يتعرض لهذا الموقف، إلا أن أدبيات المسارح السياسية العالمية تقتضي التفاعل مع هذا الخروج عن النص والتعامل معه بحكمة ودراية، كان على الحكومة أن ردت فعلها بطريقة ذكية ولماحة لما يسير في مصلحتها، لكنها لا تحرك ساكنا. قد يتجه البعض إلى تفسير الصمت في هذا المشهد إلى أن الحكومة لا تريد التدخل في الشأن الداخلي للمعارضة، وقد يذهب آخر إلى اعتبار الصمت "موقفا سياسيا"، وقد يبالغ آخر بتفسيره للمشهد، ليذهب إلى أن التوقع بأن الحكومة مستفيدة بالدرجة الأولى من هذا الانشقاق، لذلك هي في موقف "الشماتة"، وعندها لنا أن نتصور أخطاء استراتيجية أكثر خطورة ستتضح قريبا، وهذا ما يجعل من المقالة عرضة لأن تشغل مساحة أكبر مما تسمح به ظروف التحرير والمساحة، وأطول مما تسمح به أوقات القراء "المشاهدين للمسرحية". * كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1125 - الثلثاء 04 أكتوبر 2005م الموافق 01 رمضان 1426هـ