العدد 1124 - الإثنين 03 أكتوبر 2005م الموافق 29 شعبان 1426هـ

الثلم المعوج من الثور الكبير

أسبوع في مدينة خائفة

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

طلبت مني جامعة القديس يوسف في بيروت، وهي إحدى الجامعات الرئيسية في لبنان، أن أتحدث في ندوة تعقدها حول لبنان والعالم، والمطلوب الحديث عن نظرة العربي إلى لبنان. طبعا لا توجد نظرة موحدة وشاملة "لعربي مفترض" إلى لبنان، إذ ان هناك عددا من الرؤى لهذا البلد الجميل وغير المستقر، تتراوح في الفهم، فجزء من أهل الخليج ينظر إليه بعين، غير الجزء الآخر، وبعض المصريين أو المغاربة ينظرون إليه بنظرة تختلف عن نظرة جزء آخر من شعبهم. إلا أن الحقيقة الشاخصة تقول إنه لا توجد مدينة عربية مسلط عليها الأنظار أكثر من بيروت في هذا الفضاء الدولي المضطرب. تختصر لبنان في بيروت، وتختصر بيروت في إعلامها الذي يضخ يوميا كل ما تشتهي من المتناقضات والإشاعات، التي تبدأ مع الخيوط الأولى من النهار ولا تنتهي في الهزيع الأخير من الليل، وكلما طرحت فكرة في منتدى بيروتي جاءتك الإجابات حولها من أكثر من زاوية، والقول صحيح إنه إذا وجد ثلاثة مواطنين لبنانيين فهناك أربع وجهات نظر! إلا أن بيروت خائفة، بل مرتعبة من جراء مسلسل التفجيرات التي حدثت أخيرا وخصوصا بعد الاغتيال الأعظم لرئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وسلسلة الاغتيالات التي تلتها. ومن وقتها لم تهدأ بيروت حتى اللحظة، وقد فوجئت أخيرا بمحاولة إرسال أيقونة من أيقونات بيروت الإعلامية وهي مي شدياق إلى خالقها، وفشلت المحاولة ولكنها تركت مي شدياق مهشمة بلا يد أو رجل يسرى. ذلك العمل الإرهابي أدخل الرعب في قلوب شتى من المواطنين والزوار، خصوصا الإعلاميين، الذين تنادوا جميعا إلى الوقوف أمام هذا الانهيار الأمني الذي جعل كل شخص في بيروت هدفا محتملا ينظر أكثر من مرة إلى محرك سيارته قبل أن يستقلها. طبعا المراد من الاعتداء على مي شدياق ليس شخصها بالذات ولكن الفكرة هي إرسال رسالة مفادها أن لا أحد في لبنان معصوم وآمن، وعلى الخوف أن يدخل في قلوب الجميع، فتتجمد الألسن في الأفواه. وهي فكرة لها علاقة بالحرية، التي لا تصل لأي شعب من دون ثمن، ويبدو أن اللبنانيين قدر لهم أن يدفعوا ثمنا لها، وهو ثمن يشاركهم العالم فيه، فقد قتل من الصحافيين في عالمنا الكثير، وتألم الجسم الإعلامي كله لذلك القتل، ولكن محاولة قتل مي شدياق تحركت لها الأمم المتحدة ومجلس الأمن وكوفي عنان، وهذا يعني الكثير ليس لها بل للبنان. أحب أن استمع وأنا في بيروت إلى تعليقات سائقي التاكسي، وهي تعليقات معبرة وعفوية، وخصوصا عندما يأمن لك السائق بأنك من خارج البلاد، ولست معنيا بالكثير فيها، فيقدم لك مرئياته السياسية ومرثيته للوضع بكل صراحة. أحدهم قال لي تفسيرا لما يحدث في لبنان اختصارا بلهجة لبنانية أن "التلم المعوج من التور الكبير"، والثلم هو الخط المحفور في الأرض الزراعية وهي تحرث للزراعة. والمعنى واضح، فإن الاعوجاج الذي نراه في العمل السياسي اللبناني هو من نتائج عمل "الثور الكبير"، ولكن المشكلة من هو الثور الكبير، في لبنان كل له ثوره الكبير! أما سائق التاكسي الثاني الذي ألقى علي في البداية مداخلة مطولة وضاحكا حول رؤيته للبنان، قال بعدها مفسرا ما يجري في لبنان من وجهة نظره، إن "الحية تتألم عندما تغير جلدها"، والمعنى أيضا واضح، فبعض السياسيين يغيرون جلدهم، وهو تغيير تصطحبه مشقة كبيرة، إذ استمر بعضهم داخل ذلك الجلد ثلاثة عقود من الزمن أو يزيد. تغيير الجلد يتضح الآن انه في بدايته، وهو مؤلم لأن الكثيرين يريدون أن يلبس لبنان جلدا آخر جديدا، ويرغبون في أن يسارعوا في ذلك. أوروبا من جهة بقيادة فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، حتى إيران تريد أن تلبس لبنان جلدا على شاكلتها! إلا أن التغيير المتأزم في لبنان أكبر من حجمه الجغرافي، أو قدرة السياسيين على ضبط تناغمه. أرى في لبنان مختبرا عربيا وإقليميا بالغ الأهمية، ويجري فيه بالضبط ما يجري في غيره من تقلصات، ميزته النسبية أو قل السلبية، أنه فاقد المناعة، تظهر عليه آثار المرض بسرعة أكثر مما تظهر على غيره من الدول المحيطة، إذ نسيجه الاجتماعي يتكون من ثمانية عشر جماعة طائفية عرقية ومذهبية، مثل هذه الفسيفساء البشرية كان يمكن في حالات أخرى أن تكون غنى وثروة للشعب والوطن، ولكن في حال لبنان حتى تاريخه، لم يستفد من إيجابياتها، واستخدمت كل سلبياتها إلى العظم أو أكثر في مضرته. في المنظور الواسع تحيط بلبنان قوى لها مصالح كبرى، من جهة سورية التي تعاني من ضغط غير مسبوق دوليا، ومن جهة أخرى "إسرائيل" التي تريد أن تستفيد من كل اضطراب في الجوار لصالحها، ومن خلفهما القوى الكبرى المعروفة، والتي تريد أن يصبح لبنان "فاترينة" لدعواتها الإصلاحية والديمقراطية. من هنا نجد أن لبنان، وفي قلبه بيروت الممتدة، خاضعة لتقلبات غير مرئية وليست داخلية فقط بل وأيضا خارجية، تستجيب للشد والجذب الإقليمي والدولي. قوى الغرب ترى في لبنان مختبرا مهما لإشاعة أفكار وممارسات سياسية واجتماعية تريد لها أن تنتشر في الجوار، ودول الجوار، بمعرفتهم بأن النجاح في المختبر قد يعمم في المنطقة، تريد أن تخنق هذه التجارب في المهد. فالآمال هنا ليست لبنانية بحتة، بل وعربية أيضا، كما هي الآلام. وبين الأمل والألم يزداد اختناق اللبنانيين الذين ينتظرون المجهول مع عربهم، ويزداد خوف الناس على معيشتهم وحياتهم. * كاتب كويتي

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1124 - الإثنين 03 أكتوبر 2005م الموافق 29 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً