وسط أجواء من الإعلام الرسمي الممل والفاقد للصدقية والتنوع الثقافي الذي كان يسري في شرايين العالم العربي ناشرا سمومه المرضية في الجسد الشعبي في هذه البقعة من العالم، مقابل أجواء من التلقين المضاد للثقافة الغربية الخالية من القيم الأخلاقية في طرف نقيض لما يعيشه العالم العربي من واقع مؤلم، شهد العالم في النصف الثاني من العقد الماضي انطلاق قناة "الجزيرة الفضائية" من العاصمة القطرية "الدوحة"، محدثة بذلك ثورة حقيقية في الإعلام العربي المرئي، ومخلفة وراءها انفجارات امتدت آثار دويها على الإعلام المسموع والمقروء، ما دفع بالكثير من الأنظمة العربية ومثقفيها لشحذ ألسنتهم وأقلامهم والدخول الفوري في معركة مع "العدو" الجديد، بينما سلـم البعض بعدم جدوى تلك الحرب فبادر لاتخاذ الخطوات العملية للتحول من حال الانغلاق التام إلى الانفتاح، وإن كان بشكل جزئي. وعلى رغم عدم تكافؤ الجبهتين من الناحية العددية، فإن القناة الثائرة، والتي تمثل الطرف الأضعف من هذه الناحية، تمكنت فعلا من كسب المعركة وهزيمة من اختار موقع الخصومة طوعا لا كرها، لينتهي المطاف بقلب مفاهيم وممارسات الإعلام العربي، بما فيها الإعلام الخليجي الذي كان يقبع في مؤخرة الركب. ومع ذلك لاتزال "الجزيرة" متمركزة في موقع الاستهداف من قبل البعض ممن يسوؤهم وجود إعلام منفتح. ولعل سر نجاح "ثورة الجزيرة" يكمن في التطبيق العملي للشعار الذي رفعته هذه القناة منذ انطلاقتها الأولى في العام 1996م والمتمثل في "الرأي والرأي الآخر" في الوقت الذي كان شعار الإعلام العربي ولايزال في معظمه "لا أريكم إلا ما أرى" "غافر: 29". ولا نقول إن "الجزيرة" قناة ملائكية لا تخلو من السلبيات مطلقا، أو لا تخلو من بعض التحيز في العرض أحيانا، إنما للحق وللتأريخ، لا يوجد سقف حرية واسع وجرأة في الطرح في أي إعلام عربي كما هو موجود في "الجزيرة"، إذ إن الخطوط الحمراء في هذه القناة، والتي لابد للقائمين على القناة من العمل على إزالتها، تكاد تلتصق بالإطار العام، كما أنها موجودة في اتجاهات محددة وليس في كل الاتجاهات. ولعله من غير المبالغة القول، إن مساحة الحرية في الإعلام العربي الآخر لا تزيد عن مساحة "الممنوع" في هذا القناة، أي النقيض تماما. ويعزز هذا الطرح، ما خلص إليه استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة "الواشنطن بوست" الأميركية في وقت سابق، وشمل أكثر من 120 محطة تلفزيونية عالمية يستقبل إرسالها في منطقة الشرق الأوسط، إذ احتلت "الجزيرة" مرتبة الصدارة كمصدر للمعلومات، كما كانت الأكثر مشاهدة عربيا، إذ حصلت على أكثر من 51 في المئة من نسبة المشاهدة، تاركة وراءها 119 قناة أخرى تقتسم حصصها في الـ 49 في المئة المتبقية. كذلك خلصت الدراسة التي نفذتها مؤسسة "Spot Beam Communication" البريطانية المتخصصة في شئون الإعلام الفضائي، والتي نشرتها على موقع "تيليكوم ويب"، إلى أن "قناة الجزيرة تحتل موقعا رائدا في تنمية وتطوير البث الفضائي في العالم العربي، وتعتبر المسئول الأول عن التغيرات الجذرية التي تطرأ على الإعلام المرئي"، وأنها تستقطب اليوم نحو 35 مليون مشاهد "ما يعتبر رقما صحيا للغاية بالنسبة لقناة إخبارية بحتة" بحسب نص تقرير نتائج الدراسة. ويعزو هذا التقرير نجاح "الجزيرة" إلى أنها "تقدم خدمة تعجز القنوات العربية الأرضية عن توفيرها"، إذ إنها "تؤمن خدمة معلوماتية على مستوى عالمي"، كما أنها عبارة عن "أخبار وآراء حرة ومن دون رقيب يقدمها عرب". واعتبر التقرير ما تواجهه برامج هذه القناة من انتقادات عارمة من الأنظمة العربية، وكذلك النظام الأميركي والإسرائيلي والبريطاني وبعض الأنظمة الغربية الأخرى، مؤشرا قويا على نجاح القناة و"دليلا على أنها تؤدي عملها بشكل ممتاز". ومن الأمور المهمة التي وردت في التقرير قوله إن الجزيرة "لم تخضع للضغوط ولم تجبن وتتقوقع في نظام قاس من الرقابة الذاتية، بل استمرت بالسماح بعرض آراء متناقضة جذريا"، ليخلص التقرير إلى القول إن "الجزيرة" تدير محطة "على درجة عالية من الاحتراف والمهنية". لكنه في المقابل يقول: "طبعا، ثمة أوجه تحيز في تغطية "الجزيرة"، إلا أنه حتى شبكتي "بي بي سي" و"سي إن إن" وكذلك صحف عريقة مثل "ديلي تلغراف" البريطانية المغالية في تبنيها للمواقف المحافظة، تنتهج نفسها سياسية تحريرية متحيزة"، مشيرا إلى أن "الخبر الحقيقي هو الذي يسترعي الانتباه ويخلق دوما ردود فعل إزاءه، أما الأخبار التي تمر مرور الكرام فهي عمليا نوع من الإعلان". كما أشارت دراسة ثالثة صادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية إلى أن "الجزيرة" "تأتي في مقدمة مصادر الأخبار للمواطن العربي"، نافية أن تكون القناة "أحد عوامل الشعور بالعداء للغرب". يقول مدير مركز سبان لدراسات الشرق الأوسط مارتن إنديك: "أعتقد أنه سيكون أمرا مريعا لو أن الجزيرة أغلقت. أعتقد أنها يمكن أن تقوم بعمل أفضل، وهذا هو الحال الذي ينطبق على الكثير من المحطات التلفزيونية في الولايات المتحدة نفسها، فـ "الجزيرة" تلعب دورا مهما في إضاءة الطريق للعالم العربي. ونأمل أيضا أنها ستجعل الحكومات أكثر مسئولية لتضمن قدرا أكبر من الشفافية فيما تقوم به. أعتقد أن مثل هذا الدور، الذي يكمن في صميم حرية الصحافة هو أمر ضروري ولازم في هذه المرحلة الزمنية التي نرى فيها المزيد من الناس في العالم العربي يسعون إلى هذه الشفافية وحرية التعبير ومحاسبة حكوماتهم". ولم تقتصر ثورة "الجزيرة" على المحتوى والعرض ومساحة الحرية وما إلى ذلك من أمور متعلقة بالمضمون، وإنما اتخذت بعدا آخر لعل الكثير ممن كتبوا أو تحدثوا بشأن هذا الموضوع قد أغفلوه بشكل كبير، وهو أن "الجزيرة" انطلقت من قلب العالم العربي، في الوقت الذي كان فيه المخرج الوحيد لمن تسول له نفسه أن يتخذ منهجا حرا ومنفتحا لا يخضع لمقص الرقيب أن يعد عدته للعمل من خارج العالم العربي مستهدفا الداخل. وجر هذا الوضع في أذياله ظاهرة مقيتة تمثلت في هجرة الكفاءات الإعلامية العربية والطاقات الفكرية إلى الخارج، غير أن الجزيرة بانطلاقتها من قلب العالم العربي قد مغنطت الأجواء لتجتذب هذه الطاقات مجددا.
الجولة الثانية... "الجزيرة الرياضية"
بكل رباطة جأش الجولة الأولى، وبما يلفها من فخر، وبالمستوى نفسه من المهنية والحرفية، خاضت "الجزيرة" الجولة الثانية من ثورتها، بإطلاق "الجزيرة الرياضية"، التي لم تستدع الكثير من الوقت لكي تحتل المكانة ذاتها التي حققتها "الجزيرة الإخبارية" بين قنوات الأخبار العالمية والعربية، ولكن هذه المرة بين القنوات الرياضية التي منها ما كان متميزا وعتيدا قبل مجيء الوليد الجديد لـ "الجزيرة". ففي فترة قصيرة جدا تمكنت هذه القناة من التفرد بالنقل الحي لأقوى دوريين محليين كرويين على مستوى العالم وهما الدوري الأسباني والإيطالي، إضافة لكأس الاتحاد الإنجليزي وهو أقدم مسابقة كروية في التاريخ، وبعض البطولات الموسمية الأخرى، وكل ذلك حصريا على مستوى الشرق الأوسط، لتسحب بذلك البساط من تحت أقدام قنوات متخصصة لم يعتقد أحد حينها أن تتراجع بهذا الشكل. مجددا، السر الكبير يكمن في المهنية العالية التي تحلت بها هذه القناة، إذ اجتذبت أفضل الإعلاميين العرب المتخصصين، وأشهر المحللين العرب والأجانب من حكام ولاعبين وإداريين وغيرهم. كما لم تتأخر عن إنشاء استوديوهات مجهزة بأفضل التجهيزات تنقل للمشاهد العربي ما يتوق إلى رؤيته من قلب الحدث. كما لم تسلم نفسها فريسة سهلة للروتين والأساليب التقليدية في العمل فأدخلت على ساحة الإعلام الرياضي باقة من البرامج التي اجتذبت ملايين المشاهدين في جميع أنحاء العالم، وليس أقلها شأنا "النشرة الاقتصادية الرياضية" التي تسلط فيها الضوء على حركة تداول الأسهم للأندية والمؤسسات الرياضية وسوق انتقالات اللاعبين واستثمارات الأندية وغير ذلك، لتحول الرياضة من مجرد التسلية والإثارة إلى المعلومة والثقافة. ولا يجب أن نغفل الدور البارز لهذه القناة في إدخال العنصر النسائي العربي للساحة الإعلامية الرياضية، وهو أمر لم يألفه العالم العربي من قبل، إذ فجرت إمكانات وطاقات عربية كانت دفينة لأزمان. وبعد كل ذلك، لا يكاد المتابع أن يجد أدنى سبب للاستغراب، وهو يشهد انتقال الإعلامي المتألق علي سعيد الكعبي من موقع مدير قناة "أبوظبي الرياضية" إلى معلق رياضي في قناة "الجزيرة"، والذي ربما برره البعض بسعي الكعبي وراء المال، وهو تبرير في غير موقعه، إذ إن الدافع الذي يدفع كفاءة إعلامية من هذا النوع لا يمكن أن يكون المال، وإنما توسيع نطاق ظهور تلك الكفاءة المهنية من خلال أفق الانتشار الواسع الذي حققته "الجزيرة الرياضية". الآن، وبعد هذا الإنجاز الذي يحق لقناة "الجزيرة" أن تتفاخر به، وإن ساء هذا التفاخر البعض، ولاسيما أن الإعلام العربي الحالي هو إعلام "الفيديو كليب"، تأتي "الجزيرة" بالجولة الثالثة من ثورتها الإعلامية لتطلق قناة "الجزيرة للأطفال".
الجولة الثالثة... "الجزيرة للأطفال"
في مطلع سبتمبر/ أيلول من العام الجاري، وبعد مرور 9 سنوات تقريبا على الجولة الأولى من ثورة "الجزيرة"، فانها دشنت جولتها الثالثة بإطلاق قناة "الجزيرة للأطفال"... وهي جولة أعتقد أن المعطيات الحالية تشير إلى أنها ستحسم بجدارة لصالحها مجددا. "الجزيرة للأطفال"، قناة تسعى إلى الدمج بين الترفيه والتربية، وتهدف لتعريف الأطفال والمربين بمبادئ التسامح والانفتاح، وتعمل على تعزيز الممارسات التربوية السليمة، ما يجعلها بحق تتبوأ موقع الأهمية بالنسبة للمربين تحديدا، وللمهتمين بشئون التربية عموما. وأعتقد أن هذه الخطوة تمثل فعلا سابقة مهمة في العالم العربي. "الجزيرة للأطفال"، هي ثمرة شراكة بين قناة "الجزيرة الفضائية" ومؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع التي ترأسها وتدعمها قرينة أمير قطر الشيخة موزة بنت ناصر، التي عرف عنها دعمها المتواصل
العدد 1120 - الخميس 29 سبتمبر 2005م الموافق 25 شعبان 1426هـ