ليس في هذه المقولة مبالغة أو تهويل، وأنت تشاهد رجلا بحرينيا كبيرا في السن يلبس ثوبا بيضاء ويلف (الغترة) بأسلوب تقليدي، يقف بصلابة أمام اندفاع تيارات الهواء الباردة وهو يتأمل أمواج البحر وزرقة المياه العذبة، وخلفه جرافة عملاقة تنتظر مواصلة عمل دفن البحر وتحويل الشاطئ إلى ساحة بيضاء مجهولة الهوية والذاكرة. وحين غادر هذا الرجل بخطوات متثاقلة فضاء الساحل، عاود هدير الماكينات الثقيلة يعزف لحنا نشازا مزعجا، وتتوغل الجرافات في الدفن ومسخ التاريخ... شعر بأنه ينفصل عن ذاته ويعيش غربة حقيقية على بعد مسافة يمشيها ليصل إلى القرية.

وشواطئ البحرين الفسيحة الممتدة لمئات الكيلومترات والتي عرفت على مر التاريخ بطبيعتها الساحرة ومياهها العذبة تعيش اليوم مأزقا حقيقيا وخطرا يحدق بها ويهدد بيئتها وثروتها الساحلية تتمثل بعمليات الدفن والردم وتحويلها إلى أملاك خاصة من دون وجود قوانين أو تشريعات واضحة في هذا الصدد تحدد وتقنن هذه العمليات. أصبحت هذه السواحل عبارة عن امتدادات ضيقة لا تتجاوز مئات المترات المخنوقة وعلى الجوانب فلل وشاليهات شيدت من دون سابق انذار.

ساحل القرية الذي كان يقصده الأهالي والزوار لقضاء أوقات ممتعة ومكسبا يرتزق منه عشرات الصيادين يواجه حصارا وهجوما عنيفا من ابن الأرض الذي يستخدم أشد الأساليب ضراوة وفتكا بالموارد الطبيعية والبيئة البحرية في غياب التشريع والرقابة. عمليات الدفان البحري التي تتعرض لها سواحل البحرين بأهداف وأغراض مختلفة سواء كانت سكنية أو استثمارية تتطلب معرفة أبعادها وتأثيراتها الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والسياسية والنتائج المترتبة على ذلك. لقد تغير شكل خريطة البحرين خلال الثلاثين سنة الماضية، وأطراف الأراضي الساحلية تتمدد ولا تتوقف.

وتستلزم عملية الدفان البحري في البحرين حتى 25,000 متر مربع احتساب مبلغ 25 فلسا لكل متر مربع وأكثر من 25,000 متر مربع يتم احتساب مبلغ 10 فلوس لكل متر مربع، أما رسوم شهادة إتمام الدفان فهي خمسة دينار...! بهذا الثمن البخس نعرض بيئتنا البحرية إلى أخطار ومهالك بيئية من الصعب تفادي وقوعها أو تجاوزها