منذ زمن طويل لم اتحاور مع مساحات الليل والشمس والضوء والظلام، وكان اللقاء السنوي لمعرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية، ملجأ وشاطئا وملهما ومتنفسا لكل فنان عرف الفن بروحه قبل ان يعرفه بفرشاته او يده او صبره العميق، وكنا نتجول في المعرض طوال فترة عرضه اياما وساعات ونحن نستمع إلى شرح الفنانين لأمانيهم وأحلامهم ولما يقدمونه وما يقلدونه من مدارس فنية يسيرون على آثارها، فتدهشنا اللوحة والتعبير، ويرهقنا البحث عن ذواتنا ضمن اطار الخط واللون والشاطئ والسماء والفضاء اللاممتد، واشباح الشخوص التي تريد ان تقول او تختفي، كان الفن في الثمانينات بالبحرين يتمتع بروح المغامرة والتحدي والمنافسة، وكان المعرض يمتلئ بمئات اللوحات المعبرة عن كل ما في روح الشباب من تحدٍّ.
وكان المعرض السنوي هو الحدث الأكبر والأجمل لأهل الفن والأدب في البحرين ضمن احتفالات العيد الوطني، وكانت لا تكفينا ثلاثة أو أربعة أيام للتعليق على تدفق الأمل والعطاء وروح المنافسة الجميلة في روح كل لوحة.
وما مرت به البحرين هذا العام من حوادث مثيرة ومؤثرة في كل فرد فيها، وما تمتعت به ارضها وأهلها وشعبها من مشاعر التحركات السياسية والاقتصادية والتنافسية، فتح مجالات جديدة لبروز روح المنافسة والحرية من قبل كل فرد فيها إلا أهل الفن والأدب الذي ظل الصمت يعتريهما. وانتظرت ان ينطق الفن بما يجري بنا وبحياتنا من انقلاب خطير وحماسي ومثير على يد أهل الفن فتدلي الألوان برأيها لما يعتريها من حوادث جليلة، ولكنني وجدت للاسف ان الشعر والفن والادب مازالوا يفضلون الصمت على البوح لعل الصمت اعمق أو لعلها بضاعة خاسرة.
هل اصبحت حتى الالوان تخاف البوح بحقيقة اعماق مبدعها؟؟
وما قدمه اليوم المعرض السنوي يقول ان شعب البحرين في واد والفنانين في واد آخر، حتى التجريد يجب ان ينطق ويقول اما معترضا او موافقا، اما حزينا او سعيدا ولكن ان تقدم لوحات بلا حياة ولا فرح ولا حزن ولا اعتراض ولا موافقة، فماذا يعني هذا؟
هل تحول الفنان البحريني إلى مقلد للاشيء إلا لما لا نفهمه، ولن اقول ان هذا قصور في فهمنا للفن... فلابد للوحة من ضربة ضمن امواج ألوانها تقول لنا شيئا أو توصل إلينا أثرا، أما ان تقول لا شيء فهذا ليس فنا!
إنما استثني بعض فنانينا الكبار الذين لايزالون يقدمون روح الفكر المعبر باللون عما فيهم وما يحركنا، وهم على عدد الاصابع بالنسبة إلى ما قدم وما استبعد من اللوحات التي لا نعرف كم عددها، فعدد غير قليل كان مستاء في قاعة العرض لأن اللجنة استبعدت لوحاته، واللوحات المميزة كانت تقول ما فهمناه وأحسسنا به:
1- فالفرس التي تسقط في اللون الاحمر للفنان الكبير عبدالله المحرقي قالت انظروني وانا اسقط، وقالت قصة كل شيء يسقط في زمن الالم والدم والأحلام البعيدة، واستطاعت ان تنقل إلينا احساس الفنان بما يجري في واقع العالم العربي اليوم.
2- ووجوه الرجال القوية في لوحة الدكتور احمد باقر قالت لنا انتظروا وتأملوا ففي الرجال القادمين سيزول خوفنا على غدنا ومستقبلنا.
3- وشخصيات الامل الفضائي اللون قالت لنا كيف اشتعلت العزيمة والقوة والتف اهل البحرين متعاونين من اجل مستقبلهم في لوحة الفنانة بلقيس فخرو.
4- والوجه الوحيد الذي يحمل ألمه وصمته المشحون بالقهر والرفض والدمع قالها وبجرأة الفنان الرائع عبدالرحيم شريف.
5- والالوان الملتهبة التي تحكي قصة الصراع كانت تعبيرا رائعا عن تناقض الحلم وألوانه قالها الفنان الكبير عبدالكريم البوسطة.
6- وبقايا الذكرى لما تبقى من الزقاق القديم والحي القديم وذكريات الماضي نقلها بصورة رائعة شيخ الفنانين في البحرين عبدالكريم العريض.
7- وجدارية مهدي عبدالله البناي الجميلة قدمت لوحة جميلة من التراث المتطور عبرت عن تاريخها الاصيل.
هؤلاء الفنانون السبعة هم رواد كبار كانوا ومازالوا يقدمون الجديد على مدى تاريخهم الفني الطويل، وهم ما خرجت به من المعرض الذي كنت اخرج منه كل عام بالاعجاب بعشرات اللوحات في الثمانينات، وانا اتساءل لماذا يحاصر اهل الفن وهم بحسب علمي يزيدون على الثمانين فنانا ولماذا اختفى التنافس، واختفى الفن واختفت بقية الرواد؟ وكيف حصدت الجوائز وقدرت، وقدمت إلى كثير لم يقدموا ما يستحق الجائزة؟
ولكن للأمانة هذا لا يعني انني اقلل من الجهود التي قامت بها إدارة الثقافة والتراث الوطني، بتقديم العرض والمكان اللائق وقد وضحت جهود العاملين فيها وعلى رأسهم الشيخة مي بنت محمد بن ابراهيم آل خليفة في حفل الاستقبال من الترتيب والتنسيق والاشراف على ان يكون حفلا مميزا وناجحا.
وتبقى اصابع اللوم متجهة إلى الفنانين والمسئولين عن حركة الفن والجمعيات التي كانت تدرس وتوجه وتحتضن الفنانين، أين هي في خطة الدولة المقبلة، ماذا يعيقها؟ وما دورها؟
هذا ما سنحاول ان نعرفه حينما تنتهي لقاءاتنا وحواراتنا مع أهل الفن في الايام المقبلة إن شاء الله
العدد 112 - الخميس 26 ديسمبر 2002م الموافق 21 شوال 1423هـ