من حديث للقائد جمال عبدالناصر: "الموضوع مش هو مسألة جلاء إسرائيل عن سيناء وحدها، لو كنا عايزين نسترد سيناء ممكن بتنازلات، بنقبل شروط أميركا وشروط إسرائيل، ونتخلى عن الالتزام العربي ونترك لإسرائيل اليد الطولى في القدس والضفة الغربية وأي بلد عربي، ويحققوا حلمهم اللي اتكلموا عليه من النيل للفرات، ونتخلى عن كل التزاماتنا العربية، ونقول لهم: يعدوا في قناة السويس ويرفعوا علمهم في القناة، هيمشوا "= سيمشون" ويتركوا سيناء، الموضوع مش هو الجلاء عن سيناء لوحدها، الموضوع أكبر من كده بكتير، الموضوع نكون أو لا نكون، الموضوع هل سنبقى الدولة المستقلة التي حافظت على استقلالها وعلى سيادتها ولم تدخل ضمن مناطق النفوذ، وإلا حنتخلى عن هذا؟ إحنا مجروحين، جزء من أرضنا محتل ولكن رغم هذا هل نتنازل عن كل التزاماتنا وكل المثل وكل الحقوق، ونقبل إن إحنا نقعد مع إسرائيل لنتفاوض في الوصول إلى حل؟ إسرائيل بتقول كده وأميركا بتقول كده. . المسألة مش مسألة حل أزمة الشرق الأوسط، المسألة هي نوعية الحل، شرف الحل، شرفنا ومستقبلنا ومصيرنا، ولما حاندخل معركة حاتكون هذه المعركة فاصلة". كان هذا جزءا من حديث القائد جمال عبدالناصر مع المثقفين في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، وذلك في 25 ابريل/ نيسان 1968 وكانت حرب الاستنزاف الاختبار الرئيسي لقدرة مصر على استعادة إرادتها إلى أن أعلنت غولدا مائير في 13 يناير/ كانون الثاني 1970: أنها لا ترى فرصة للسلام مادام عبدالناصر في الحكم، وبالتالي فإن سقوط عبدالناصر والنظام الذي يمثله يجب أن يسبق أي حديث عن السلم... وكانت الاستراتيجية الأميركية كما عبر عنها كيسنجر لا تختلف كثيرا عن التصور الإسرائيلي، فالعناصر الأربعة التي وضعتها أميركا كانت كالآتي: 1- إسقاط جمال عبدالناصر وما يمثله. 2- إنهاء الوجود السوفياتي في مصر والمنطقة. 3- عزل مصر عن أمتها العربية. 4- القضاء على القوة العسكرية للفدائيين الفلسطينيين "المقاومة"... ونستطيع القول الآن: إن الاستراتيجية الأميركية نجحت في تحقيق معظم عناصرها فقد رحل ناصر وتم تفكيك ما يمثله وتم إنهاء الوجود السوفياتي في المنطقة ثم إنهاؤه في بلده، وتم عزل مصر عن أمتها العربية، لكن العنصر الذي كان ولايزال وسيظل يستعصي على كل الاستراتيجيات هو العنصر المتعلق بالمقاومة الفلسطينية التي تدخل الآن مرحلة نوعية جديدة في ضوء الحوارات بين الفصائل المقاومة والسلطة الفلسطينية بقيادة أبومازن... كان ذلك المدخل بمثابة طرقات استئذان قبل أن ندخل إلى مركز الوثائق والمعلومات المتنقل، والأمين على الصلة والاتصال بين القائد وشعبه، الزعيم وأجهزته التنفيذية، إنه سامي عبدالعزيز محمد شرف الشهير بـ "سامي شرف" الوزير الاسبق برئاسة الجمهورية ومدير مكتب الرئيس للمعلومات، أو تلك النافذة التي يطل منها ناصر على العالم، والرجل صاحب شهادة لأنه صاحب أمانة ووفاء وشرف، أعطى عصارة شبابه متفانيا في خدمة بلده، وفي أوان الشيخوخة جاء ليعطينا خلاصة تجاربه ووثائقه ومعلوماته كشاهد على عصر الكرامة العربية في كتاب بعنوان "سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر"، والذي يمثل الجزء الأول من شهادته الموثقة بالمعلومات والتواريخ والخطابات والتأشيرات التي حافظ عليها أو حفظها لنا وللقراء، مع أن الرجل معروف بذاكرته الكمبيوترية إلا أنه لم يأل جهدا في توثيق كل ما يكتب بالمصادر والمراجع، فهو رجل المعلومات الأول في النصف الثاني من القرن العشرين. كان سامي شرف يتوارى دائما منذ خرج من السجن حاملا صورة الرئيس الخالد منافحا في كل حملات الهجوم عن حبيب الشعب، لم يبتغ مكسبا وهو في قمة السلطة، فما بالنا بعد زوالها، فمازال سامي الشرف يعيش على معاشه بعد أن خدم بلده قرابة عشرين عاما، وبعد رحلة في سجون السادات اختصرتها المرحومة والدته بقولها له في آخر زيارة للابن في معتقل المسجونين بقصر العيني: "يا بني، القوالب نامت والانصاص قامت"! وعلى رغم حرص شرف طوال أكثر من عشرين عاما بعد السجن على إنكار ذاته، إلا أنه كان مطالبا بأن يضمن مذكراته الجديدة بعضا من سيرته الذاتية، وذلك ردا على مقولة أهل الثقة وأهل الخبرة، وقد اضطر لذلك اضطرارا تحت إلحاح البعض وحسنا فعل، فلم يكن الناس يعرفون عنه سوى أنه أحد رموز ما أطلق عليه السادات مراكز القوى وطالب بإعدامه بعد القبض عليه، لكن الناس طوال العقدين الماضيين عرفوا حقيقة المأساة التي وضع فيها السادات مصر من 14 مايو/ أيار 1971 حتى سبتمبر/ أيلول ،1981 ثم عرف الناس حجم الفساد الذي سد أعين الشمس بعدها، وهو الأمر الذي أعاد الاعتبار للصفحة النظيفة التي سجلها رجال عبدالناصر بمنتهى الشرف دون استغلال لنفوذ أو استثمار لسلطة، فالناس الآن مثلما هي في شوق لمعرفة المزيد من وثائق ثورة يوليو وقائدها، إلا أنها بحاجة أيضا لمعرفة معادن رجاله، فلا توجد تجربة كبيرة في التاريخ يقودها صغار، والعكس صحيح أيضا. من هنا كانت الإشارة إلى السيرة الذاتية لسامي شرف "ابن الدكتور عبدالعزيز شرف الحاصل على الدكتوراه في الجراحة العامة من كلية طب ادنبرة في المملكة المتحدة ووكيل وزارة الصحة وحفيد محمد زكي صالح محافظ بني سويف والمولود في الفيلا رقم 12 شارع كومانوس بمصر الجديدة صباح يوم 21 ابريل 1929" وقد حاز شرف قبل الثورة على وسام "محمد علي الكبير" ووسام نجمة فلسطين ثم وسام "التحرير" بعد قيام الثورة، وبعد الثورة كان الرجل بمثابة الباب الشرعي الذي تدخل إليه أو تخرج منه كل الشخصيات والحوادث والمعلومات والوثائق المهمة طوال ما يقرب من عشرين عاما. وكطبيعته في التعفف والترفع لم يستغرق الجزء الذاتي في الكتاب سوى بضع صفحات محدودة، ثم دلف إلى فصله الثاني، والمعنون: "عبدالناصر الرجل والإنسان"، والذي يستهله بكلمة "يوجين جوستين" رجل المخابرات المركزية الأميركية يقول فيها يوجين عن عبدالناصر: "إن مشكلتنا مع ناصر أنه رجل بلا رذيلة ما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمر ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه، نحن نكرهه ككل، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد". ثم يستعرض سامي شرف في هذا الفصل مجموعة من الومضات الإنسانية التي تلقي الضوء على المعدن النادر للزعيم الراحل. ابن مين في مصر؟ تحت هذا العنوان وثيقة الحوار الذي دار بين جمال عبدالناصر ورئيس لجنة اختبار كشف الهيئة للالتحاق بالكلية الحربية، وهو الحوار الذي تعرفه أجيال كثيرة لكن الجيل الجديد لم يعرفه بعد، ويبدأ الحوار كالآتي: اسمك إيه؟ - اسمي جمال عبدالناصر حسين أبوك بيشتغل إيه؟ - موظف في مصلحة البريد. موظف كبير؟ - لا... موظف صغير. بلدكم إيه؟ - بني مر.. مديرية أسيوط يعني فلاحين؟ - أيوه. فيه حد من عيلتكم ضابط جيش؟ - لا. أمال أنت عاوز تبقى ضابط ليه؟ - علشان أبذل دمي فداء للوطن. عندكم أملاك؟ - إحنا ناس كادحين. فيه حد أتكلم علشانك "واسطة يعني"؟ - أنا واسطتي ربنا. أنت اشتركت في مظاهرات 1935؟ - أيوه. كده... طيب أتفضل أنت. وبعد هذا الحوار دخل جمال عبدالناصر كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول "القاهرة" لمدة عام؛ وفي العام التالي تقدم للالتحاق اربع مرات أخرى للكلية الحربية. ممتلكات جمال عبدالناصر يوم رحيله: ولأن صاحب المذكرات معني بالأجيال الجديدة، ونحن معه، فقد أورد الوثيقة الخاصة بممتلكات الزعيم الخالد في يوم رحيله في 28 سبتمبر 1970: * المرتب الشهري 500 جنيه. * بدل التمثيل 125 جنيها. * الصافي الذي كان يتقاضاه هو مبلغ 395 جنيها وستون قرشا وسبعة مليمات "395,60,7" وذلك بعد استقطاع الخصومات من معاش وتأمين وإيجار استراحة المعمورة. * وثيقة تأمين على الحياة 2500 جنيه. * سيارة أوستين قديمة كان يملكها قبل قيام الثورة. * ثمانية أزواج أحذية. * ثلاث كاميرات تصوير. * آلة تصوير سينمائي. * عشر بدل ومجموعة من الكرافتات. * استبدل من معاشه جاستدان على حساب معاشهة 3500 جنيه لتجهيز زيجتي ابنتيه. * كان في جيبه يوم رحيله مبلغ 84 جنيها. * أسرته لا تمتلك سكنا خاصا بعد تسليم بيت للدولة في منشية البكري. وفي رواية نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد علي الجريتلي أوردها في عموده الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، حكى الجريتلي أنه استقبل في السبعينات رئيس اتحاد المصارف السويسري المشهورة بحساباتها السرية، وقال السويسري للجريتلي: "لقد أهلكتنا المخابرات الأميركية والإسرائيلية بحثا وتنقيبا عن حساب سري لعبدالناصر في بنوك سويسرا فلم نجد، وكانت هذه الأجهزة لا تصدق أنه لا يملك أي حساب خاص في الخارج". شهادات: ومن بين عشرات الآراء والشهادات الأجنبية التي قيلت في ناصر وأوردها سامي شرف في مذكراته إلا أننا نختار جزءا من شهادة السفير الأميركي جون بادو؛ يقول بادو "إن الولايات المتحدة وجدت نفسها بعد حرب السويس حارسا للمركز الغربي العام في الشرق الأوسط، وأصبحت هي الأساس والسياسات الأوربية تابعة لها، فأيدت الأنظمة العربية المؤيدة للغرب، ولم تتردد في مقاومة الأنظمة غير الموالية لها، وكثيرا ما يذكر العرب أعمال المخابرات المركزية في سورية ومصر وإيران كدليل واضح على تدخل الامبريالية الأميركية في شئونهم، واعتقدت الولايات المتحدة أن استقرارها في العالم العربي يفرض عليها مساندة الملكيات التقليدية التي يعتمد مركزها على صفوة من الملاك والتجار أكثر منه على الجماهير العريضة، ولو تخلت عنهم أي عن تلك الأنظمة فإنها سرعان ما تسقط، لقد استفزت كلمة "السيادة" التي فرضها ناصر الغرب كثيرا، وهذا أدى به لإتباع سياسة الانتحار، وحينما يخاطب ناصر الجماهير بوصفهم "مواطنون" فإن هذا يعني أن الرعية قد أضفي عليها حالة جديدة، هي حقهم في الاشتراك مباشرة في إدارة شئون بلادهم، وهي حالة جديدة على المواطن المصري، فالجماهير تحمل مفتاح المستقبل، وهذا العنصر الذي فرض على مخططي السياسة الأميركية كان من الصعب علينا قبوله، لأن المسئول
العدد 1119 - الأربعاء 28 سبتمبر 2005م الموافق 24 شعبان 1426هـ