العدد 1118 - الثلثاء 27 سبتمبر 2005م الموافق 23 شعبان 1426هـ

لبنان... "عشرة عبيد صغار"!

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل نحو 30 عاما عرض على شاشة تلفزيون لبنان مسلسل اسمه "عشرة عبيد صغار"، وكانت القصة عن عدد من الأشخاص يدعون إلى زيارة منزل في إحدى الجزر، وكان في كل ليلة يقتل أحدهم في ظروف غامضة. وأثناء ذلك بقي القاتل مجهولا إلى الحلقة الأخيرة من المسلسل. وبالمناسبة، أثبتت الكثير من الدراسات أن بعض القتلة يستوحي طرقه في الجرائم من الأفلام والمسلسلات، أو من الروايات والقصص. وهذا المسلسل كان آنذاك محط اهتمام كل اللبنانيين لما فيه من تعقيد في الحبكة الدرامية. الآن في لبنان يتكرر هذا المسلسل، ولكن ليس على الشاشة وإنما في الواقع، إذ إن التفجيرات ومحاولات الاغتيال تكاد تصبح خبزا يوميا للبنانيين، وربما من السابق لأوانه الحديث عن إمكان معرفة من يقف وراء جرائم التفجير والقلاقل الامنية في ظل وجود غابة من الاتهامات السياسية المتبادلة بين مختلف الأطراف، التي وإن اتفقت فيما بينها على ضرورة كشف الفاعلين إلا أنها تختلف على توصيف المجرم. وما جرى للزميلة مي شدياق "الإعلامية التي تعمل في محطة lbc، إذ انفجرت عبوة ناسفة في سيارتها وأصيبت جراء ذلك بإصابات خطيرة" مساء الأحد الماضي، يمكن أن يحدث مع أي إعلامي لبناني إلى أية طائفة أو تيار سياسي انتمى. إذ ليس المستهدف المسيحيين في لبنان وإن كانت محاولات الاغتيال والتفجيرات تتركز على مناطق الانتشار المسيحي وعلى الشخصيات المسيحية، ذلك لأن الواضح من هذه العمليات هو إيقاد الإحساس بأن الهدف هو محاربة المسيحيين من أجل استفزاز العصب الطائفي والمذهبي، وجر التيارات السياسية اللبنانية كافة إلى الانقلاب على السلم الأهلي والاصطفاف مذهبيا وطائفيا خلف الميليشيات المذهبية وإعادة عسكرة لبنان مرة ثانية. وربما يكون الهدف من ذلك جعل لبنان المعزول جغرافيا، منطقة تنفيس احتقانات مذهبية وطائفية وإبعاد عناصر التوتر عن مناطق أخرى، إذ من غير المعقول أن تكون سورية مثلا، هي من يقف خلف هذه التفجيرات أو المستفيد الوحيد منها من أجل حرف الأنظار عما يمكن أن تؤدي إليه نتائج التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لأن ذلك يعني اعترافا صريحا من سورية أنها هي المسئول المباشر عن هذه الجريمة التي تتحمل فيها المسئولية لجهة التقصير في حماية الرئيس الحريري فقط أقله في هذه المرحلة وإلى أن يصدر تقرير لجنة ميليس، وإلى أن يحسم تقرير اللجنة الدولية أمر المسئولية على من تقع تبقى كل الاحتمالات واردة في هذا الشأن. أما فيما يتعلق بمن يقوم بعمليات التفجير ومحاولات الاغتيال في لبنان فإن الأمر يتطلب قراءة شبيهة إلى حد بعيد بلعبة الأضداد أو المغناطيس، أي الأقطاب التي تطرد بعضها بعضا في دورة لا تنتهي إلا عند وضع حاجز بينها. فلبنان الآن يعيش أجواء مسلسل "عشرة عبيد صغار" إلى أن تنجلي الرؤية تماما، وهذه الرؤية لا يمكن أن تنجلي في بلد لم تكشف فيه هوية من ارتكب أعمال اغتيال كثيرة شهده خلال 35 عاما، باستثناء قتل بشير الجميل الذي عرف من قتله، أما غير ذلك من عمليات فقد سجلت كلها ضد مجهول، أقله على الصعيد القضائي. ولعبة الأضداد مورست في لبنان كثيرا طوال العقود الثلاثة الماضية وكانت أجهزة استخبارات كثيرة تصفي حساباتها في هذا البلد. أما الكلام عن الربط بين جريمة اغتيال الرئيس الحريري وهذه العمليات فإن الأمر تعدى حدود المنطق، لأن المسألة أصبحت أقرب إلى الطرفة التي تقول إن رجلا ذهب إلى دكان لشراء ببغاء، وكانت تجري مزايدة على الطائر ووصل السعر إلى رقم كبير وانتهى الببغاء في أملاك الرجل، وبعد أن دفع ثمنه سأل البائع: هل الببغاء يتكلم؟ فأجاب الأخير: أن هذا الببغاء هو من كان يزايد بالسعر أمامك! ففي لبنان الآن يربط كل شيء بتلك الجريمة الزلزال الذي هز المنطقة وليس لبنان وحده، ولكن أليس من أطراف مستفيدة دائما من إبقاء الوضع اللبناني متأرجحا بين الهدوء والتوتر؟ أليس هناك من يرى أن لبنان نموذج جيد لتصفية الحسابات كافة؟ أصبحت جريمة اغتيال الرئيس الحريري شماعة تعلق عليها كل القضايا وكأن لبنان قبل 14 فبراير/ شباط 2005 كان خاليا من المشكلات وتفجرت كلها بعد ظهر ذلك اليوم عند تفجير موكب الرئيس الشهيد، وبات كل أمر يجري في البلد مرتبطا بذلك الحدث، علما بأن جرائم كبرى ارتكبت في لبنان قبل اغتيال الحريري وبعد وقف الحرب، وكانت من الخطورة إلى حد أنها جعلت القضاء اللبناني عاجزا عن القيام بواجبه وأخطرها على الإطلاق جريمة اغتيال القضاة الأربعة في مدينة صيدا الجنوبية وهم تحت قبة المحكمة يمارسون عملهم. وهذه الجريمة كفيلة بتبيان حقيقة وضع القضاء، أكان لجهة خوف القضاة من الاغتيال أو لجهة الترغيب. وفي الفساد تكون أشكال الترغيب مغرية جدا إلى حد لا يمكن معه الحديث عن النزاهة، إضافة إلى قتل الوزير السابق ايلي حبيقة واغتيال عدد من قادة المقاومة، وكلها جرت من خلال التفجير ويكاد يكون الأسلوب نفسه في تلك العمليات وفي العمليات التي تجري في هذه المرحلة، إلا أن الواضح أن لعبة التركيز الإعلامي لعبت دورا كبيرا في إجراء ما يشبه القطع بين تلك العمليات وما يجري الآن، والتركيز الدولي على جريمة اغتيال الرئيس الحريري جعل الأمر في لبنان يكاد يبدأ فقط من الرابع عشر من فبراير. يوجد في لبنان 15 جهازا أمنيا، إضافة إلى الأجهزة الأمنية للأحزاب والقوى التي كانت تتقاتل في الحرب "لا يعني حل الميليشيات أن الأجهزة الأمنية الحزبية حلت"، وكل هذه الأجهزة قادرة على تكوين شبكة رصد هائلة تستطيع كشف كل صغيرة وكبيرة، إضافة إلى ذلك هناك التنصت على الاتصالات الذي تقوم به أجهزة أمنية رسمية. ما يعني أن لبنان، في المنطق الأمني، يخضع لمظلة أمنية قلما تتوافر لبلد آخر، وبالتالي من غير المعقول أن يبقى مثلا قتلة القضاة الأربعة "مر على الجريمة نحو خمس سنوات" طلقاء، فكيف تكون الحال بالنسبة إلى الجرائم الأخرى التي لم تتوافر لجان دولية للتحقيق فيها؟ محاولة اغتيال الزميلة مي شدياق وقبلها جريمة اغتيال سمير قصير وتفجير مقر إذاعة "صوت المحبة"، وقبل ذلك بسنتين إطلاق صاروخين على مبنى تلفزيون "المستقبل"، لا تستهدف فئة معينة من الإعلام اللبناني إنما هي تستهدف الإعلام اللبناني كله من جهة، ومن جهة أخرى أن جرائم التفجير والاغتيالات كلها التي يشهدها لبنان ترمي إلى جعل اللبنانيين يعيشون في كابوس دائم يفقدهم الأمل في إمكان قيام لبنان مجددا، أقله في هذه المرحلة التي تختلط فيها أوراق اللعبة إلى حد لا يمكن معه معرفة من اللاعبين وما هي أهداف لعبتهم. فهل لبنان الآن في منتصف مسلسل "عشرة عبيد صغار"؟ وهل بات على الصحافي اللبناني أن يعيش في أجواء أمنية ضاغطة، وأن يكون مع كل صحافي رجل أمن؟ شهدت الجزائر في السنوات الـ 13 الماضية موجة من عمليات اغتيال الصحافيين والكتاب، وكان وراءها قوى العنف العبثي. وعلى رغم الاختلاف بين الطبيعة السياسية للبنان والجزائر، أليس هناك من إمكان للقول إن استهداف الإعلام جزء من لعبة الموت والعنف، وأن الفاعل ذاته يستفيد من تجارب الآخرين في عملياته في لبنان أو يستوحي كما في الدراسات المشار إليها أعلاه؟ في الوضع اللبناني الراهن كل الاحتمالات واردة، إلى أن يرسي مزاد الببغاء على أحد ما، وإلى ذلك الحين ستبقى المزايدات على أشدها، وربما يكون الببغاء ذاته أحد المزايدين في هذا البازار الدموي، وربما ينتهي البازار مع تقرير لجنة ميليس في 21 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل أو يستمر، وذلك بحسب طبيعة اللعبة والمشاركين فيها، والأهداف التي يرمون إلى تحقيقها. وإلى أن تنكشف الحقائق في لبنان، هذا إذا انكشفت، على الصحافيين وفي كل أجهزة الإعلام اللبناني، أن يكونوا دائما على حذر. ففي هكذا أوضاع، تبقى الكلمة الهدف السهل، ويبقى الصحافي اللقمة الأسهل لأنه الوحيد الذي يواجه الموت دائما بقلمه وبصدره الأعزل

العدد 1118 - الثلثاء 27 سبتمبر 2005م الموافق 23 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً