هل انتحار الأفراد مرض يمكن علاجه، أم هو ظاهرة قد يطول بقاؤها؟ وهل الانتحار للانتصار موقوف حصرا على الأفراد؟ أم انه أيضا يصيب الجماعات والدول؟ تلك أسئلة تطوف بخاطر كل فرد منا يبحث لها عن جواب، بعد تفشي ظاهرة الانتحار أو القتل لسبب سياسي في منطقتنا. طبعا الانتحار ظاهرة إنسانية وغير إنسانية "فبعض الحيوانات تنتحر". ودرست هذه الظاهرة مطولا. عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم في القرن التاسع عشر درس هذه الظاهرة، وفي ظني أنه لا يوجد طالب عربي درس علم الاجتماع الحديث إلا ويعرف ظاهرة الانتحار لدى دوركايم. وقتها كانت الدراسة عن الانتحار الاجتماعي، والمنتحر الاجتماعي له مواصفات، كأن يكون في منتصف العمر، رأى كما من الخبرات السيئة في حياته ما يدفعه لقتل نفسه. وجل تلك الأسباب، إن استبعدنا الأسباب النفسية، تنتمي إلى حال العوز الاقتصادي الذي يجعل لدى الشخص قناعة بمفارقة الدنيا من دون أسف. وكان دوركايم يوصف المشكلات المصاحبة لانتقال المجتمع الغربي من الزراعي إلى الصناعي. ظاهرة الانتحار السياسي مختلفة، وهي تستقطب المنتحرين من الشباب، وهي في الأساس ظاهرة فكرية أولا، تبدأ بتكوين قناعات لدى الشخص أو المجموعة بأن فعل قتل النفس يحقق انتصارا للمجتمع. إن أكبر ظاهرة انتحار حديثة برزت في نهاية أيام الإمبراطورية اليابانية، في الحرب العالمية الثانية، لقد قتل آلاف من الطيارين الشباب "الكاميكاز" أنفسهم بسبب قناعات أن عملهم ذاك "سيقود امنا اليابان إلى النصر المبين". ويعرف العالم إلى ماذا قاد ذلك العمل الذي راح ضحيته آلاف الأرواح من الجنود الأميركيين، ولكن اليابانيين دفعوا ثمنا باهظا بعد ذلك، وفي الوقت نفسه أفقد اليابان حريتها لفترة طويلة من الزمن. جماعات التاميل في سيريلانكا مثال آخر من أمثلة قتل النفس لأجل الانتصار على الآخر، فقد قتل التاميل من أعدائهم بسبب استخدامهم للإنسان المفخخ المئات من الناس، ولكن التاميل في نهاية الأمر لم تنتصر أفكارهم أو دعوتهم. اليابان بسبب إقدام طياريها على الانتحار في سقوطهم مع طائراتها من الجو على البوارج والمنشآت الأميركية، لفتت إلى أن "فكرة قتل النفس" فكرة ثقافية متأصلة في التربية اليابانية، فلم يكن من المفيد هزيمة اليابان عسكريا، كالهزائم المتعارف عليها في التاريخ العسكري، بل كان الاهم هو اقتلاع النظام نفسه بقضه وقضيضه كما يقال، من أجل إعادة تثقيف واسعة وتشكيل قناعات جديدة. وهذا أيضا ما حصل بشكل آخر في ألمانيا بعد النازية التي سنناقش ظاهرتها بعد قليل. ظاهرة قتل النفس الفردية بدأت في فضائنا العربي على استحياء، ويعود مؤرخو الحقبة التاريخية الحالية إلى بداية الثمانينات، وهي التي شهدت تفجير مقر القوات الأميركية في بيروت، وسرعان ما التقطت الفكرة بعض قوى المقاومة الفلسطينية، وخصوصا بعد الانتفاضة الثانية. إلا أن من ضخم العمل الانتحاري الفردي عالميا، هو هجمات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 في الولايات المتحدة، التي خططت له قيادات "القاعدة"، ثم تلا ذلك ما حدث في السابع من يوليو / تموز الماضي في لندن، تخلل كل ذلك ما يحدث ولايزال في العراق، الذي يكاد فيه العمل الانتحاري يشكل بذور حرب أهلية طائفية قبيحة، يقتل فيه العراقيون عراقيين أمثالهم. ان أخذنا الأفكار المعلنة لـ "القاعدة" على سبيل المثال التي تقدم تبريرا لأفعالها الانتحارية، فإنها لا تخرج عن مجموعة من القضايا، من أمثال تدخل الغرب في شئون البلاد العربية، ووجود القوات الأجنبية على الأرض العربية، والوضع المزري للأخوة الفلسطينيين في حالهم المتردية المعروفة. تلك جملة الخطاب "القاعدي" المنتشر بدرجات مختلفة لدى كثيرين. وإذا حكمنا على نتائج العمليات الانتحارية بما حققته من أهداف، نجد أن معظم، إن لم يكن كل الأهداف المعلنة، قد حققت نتائج عكسية. فقد زاد الوجود العسكري الغربي في منطقتنا على اتساعها بعد الحادي عشر من سبتمبر، والعراق وأفغانستان وغيرها شاهد ودليل جزئي على ذلك، كما زاد التدخل الغربي في شئوننا من الخليج إلى المحيط، بدليل قرارات مجلس الأمن المختلفة، وازدادت القضية الفلسطينية التباسا، حتى عاد من السهل خلط "الإرهاب" بـ "المقاومة" في ذهن ملايين البشر على امتداد هذا العالم الواسع، وحققت "إسرائيل" مكاسب "عالمية" من وراء ذلك، لم يكن لتحلم بها قط في الظروف العادية. أما "الحرب على الإرهاب" التي ساعدت أعمال الانتحاريين على حشد العالم من أجل الانتصار فيها، فقد ضيقت الحريات على الكثير من الشعوب، وفي طليعتها الشعوب العربية، ودفعت هذه الشعوب حتى تاريخه، أثمانا باهظة من حريتها ومن خبزها ومن فرصها في التعليم والترقي، تسديدا لفاتورة اعتقد بعض أهلها من الانتحاريين أنهم يحققون النصر لها، في الوقت الذي زفوا إليها الهزيمة الحضارية المنكرة. بعض الحكومات العربية أو الأنظمة لها شبه علاقة بالحال النفسية للانتحاريين أنفسهم، فمثل هذه الأنظمة ترى أنها على حق مطلق والآخرون على فساد مطلق، ويصبح الزعيم الذي يستولي على الذوات الاجتماعية الشعبية حتى تتعثر عملية نضجها، ويزيف بعض المتزلفين لهذا الزعيم قربه من "التقديس"، إلى درجة جر مجتمع بكامله إلى الانتحار عن طريق الحرب، باردة كانت أو ساخنة. قرأ سيجموند فرويد في القرن العشرين هذه الظاهرة باتجاه تفسير النازية في ألمانيا، التي تعتبر الزعيم نفسه، هو الوصي على الشعب، وتبلغ الذروة عندما يتعطل العقل إلى درجة تتجاوز الواقع، ويذوب المواطن في الزعيم، طوعا أو كرها. في هذه الدول "الحق المطلق للزعيم" يؤهله أن يندفع في سياسات خارج سياق الزمن، وخارج سياق التاريخ. الحق المطلق أو الحقيقة المطلقة لما يقوله الزعيم تتشبث بها بعض الحكومات العربية اليوم وبعض القوى الشعبية، على أمل تقديم خير ما لشعوبها، وهي في الحقيقة تنحو نحو الحالة النفسية للانتحاريين، حيث الدخول في صراع غير محسوب العواقب، وحيث لا تصبح المغامرة بحياة أفراد، ولكن بحياة شعوب كاملة. المثل الشاخص في الذهن هو مثال نظام صدام حسين، الذي قامر انتحاريا بشعب كامل، على أمل كاذب بتحقيق انتصار متخيل، ولكنه في النهاية هدم المعبد على كل حاضريه، هدما لا بناء بعده. مع الأسف أن بعضا من الأنظمة العربية سائرة على ذاك الطريق. فلم يعد اليوم من الأسرار الغامضة، أن المجتمع الدولي في نهاية الأمر مرتبط بإرادة المجتمع الغربي، والأخيرة مرتبطة بنوع ما بإرادة المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة. هذا الارتباط يشكل آلية عدم فهمها والتعامل معها إلى انتحار جماعي. طويل أو قصير المدى. حقيقة الأمر انه في الوقت الذي تتطور فيه المجتمعات بنجاح للسيطرة أكثر وأكثر على غريزة العنف، صارت في فضائنا العربي تصعد تغليب غريزة العنف على كل ما عداها، إلى درجة لم تعد تميز بين القتل والانتحار، ذلك الأمر خلقته قناعات فكرية تزامنت مع واقع معيشي على الأرض. أما الواقع فهو فشلنا جميعا في استحداث آليات للحوار الاجتماعي الخلاق، لفض المشكلات العالقة التي تعاني منها شعوبنا، منها البطالة وتدني المستوى التعليمي وضيق الحريات من بين الكثير مما نعرف. أما القناعات فمازالت تحض عليها وسائل الإعلام الرسمية والشعبية وترسخها، تحت شعارات ملتبسة لا يريد متخذ القرار أو لا يعرف خطورته، حتى وصلنا إلى مكان هو باختصار الانتحار لخدمة الأعداء... يا لها من مهزلة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1117 - الإثنين 26 سبتمبر 2005م الموافق 22 شعبان 1426هـ