دعا كاتب لبناني رزين ذات مرة إلى رفع القبعة للزعيم السياسي والديني المتنور "السيدحسن نصرالله"، واصفا إياه بأنه محنك، وحكيم، فضلا عن كونه رجلا تاريخيا مناسبا في اللحظة التاريخية المناسبة. محنك، لتركه مسافة متساوية ما بين الموالاة والمعارضة اللبنانية، وحكيم لأنه رجح السلم الأهلي اللبناني واعتبره "خطا أحمر"، وحديثا فاجأ "إسرائيل" وأحبطها وخيب آمالها حينما نسف توقعاتها وأبدى استعداده للتخلي عن السلاح مقابل ضمانات دولية بأمن لبنان! بدورنا لمسنا تلك السمات في المقابلة التي أجراها معه زاهي وهبي في تلفزيون "المستقبل" هذا الشهر، إذ خلف انطباعا عاما عكس فيه بذكاء وحنكة جوانب إنسانية اتسمت بها شخصيته كقائد سياسي وإنسان، يفرض الحضور والإعجاب والاحترام. وبقدر ما يحتاج عالمنا العربي والإسلامي اليوم لحنكة وحكمة الرجل السياسية فإنه يحتاج بالقدر ذاته إلى حنكته وحكمته الإنسانية. تجليات البعد الإنساني اتضحت عبر رسالتين إعلاميتين تقصد إرسالهما من بين رسائل عدة: الأولى، حينما سأله المذيع باندهاش: أمعقول أن يستشهد ابنك "هادي"، لا تبكي ولا تبدي الحزن عليه؟ رد بصدق وتعقل ومن دون انفعال بمضمون قول: العدو الإسرائيلي يروج عنا فكرة أننا فاقدون للمشاعر الإنسانية، وأن حياة الإنسان لدينا لا قيمة لها. أقول: لا، على العكس تماما، لم أكن لأسمح لهم باقتناص هذه الفرصة، بكيت على ابني عندما اختليت بنفسي في لحظة معينة كأي أب يبكي استشهاد وفقدان ابنه. أنا لا أختلف عن هؤلاء الآباء. نحن بشر نمتلك الإيمان والإحساس الإنساني، والمشاعر الطبيعية، وطبيعة الموقف فرضت نفسها وجوها. هناك آباء آخرون فقدوا أبناءهم الشهداء وهم طبعا أبنائي، وكان لابد أن أكبر على الجرح والألم وأكون معهم، ونواصل المشوار! أسوق هذه الحكاية، لأنني لاأزال مستفزة منذ ثلاث سنوات من رأي لمفكر عربي يشغل مكانا في بلاطات الملوك، يشير فيه إلى قدرة مجتمعاتنا العربية والإسلامية الإبداعية، على ترجيح كفة الموت على كفة الحياة، إذ اعتبرها نقيصة وخللا في تركيبتنا، وسببا من الأسباب الجوهرية لتأخرنا عن ركب الحضارات الأخرى. رسالة "السيد" الإنسانية الثانية، جاءت في سياق الأريحية والبساطة التي أبداها كإنسان يضيء النور على جوانب من تجربته في كواليس وخفايا الحياة السياسية اليومية، إذ بين أنه شخص عادي، يحب ويكره، ويعيش عواطفه وخلجاته مثله مثل الآخرين، يتأثر بهم ويؤثر عليهم، لا صنما قائدا يعبد كما يعتقد البعض. سأله "زاهي" عن ارتباطه وكيف التقى زوجته، فرد بابتسامة خجلى: "التقيتها، تعرفت عليها، تحادثنا، وبعد مرور فترة زمنية... بعدها تفاهمنا، ثم تم الزواج". هكذا عبر بصراحة مختصرة وبعبارة قصيرة عن نمط من أنماط العلاقات الإنسانية الرائعة التي تنتهي بالزواج، والتي من الأسف تفتقدها مجتمعاتنا الحالية الغارقة حتى أخمص قدميها في بحور التعصب والايديولوجيات والعقائد والموروثات والأعراف المتحركة ما بين أشباح المحرمات والمحللات، تلك التي تفحص وترى شئونها وعلاقاتها بمعايير ومقاييس تعجيزية، تفتقد إلى المشاعر الإنسانية، وتسلب الإنسان ذاته وحريته. إن ما ساقه السيد، يدعو إلى التأمل والفحص، فالرسالة لاشك أنها واضحة وصريحة: القائد، هو ذلك الإنسان الذي يرغب ويحب، يفرح ويحزن، وينتقد ويقيم تماما كغيره. وإن العلاقة الزوجية هي علاقة إنسانية بالأساس، وتتطلب التواصل والحب والمودة، والقدرة على تجسيد العواطف والحنان والوفاء والتفاهم الدائم، ومن ضروراتها لغة الحوار الفكري والسياسي المتسامح مع الشريك، ومستلزماتها تحمل أعباء الحياة الصعبة وظروفها بما تتضمنه من ظروف نضالية تفرض أوضاعا استثنائية على الشركاء، ولاسيما أوضاعا كالظروف الأمنية التي تعيشها أسرة "السيد"، إذ لا مقر ولا سكن ثابتا، إذ لولا ذاك الحب، والموقف الفكري والروح الوطنية والتسامح والتفهم والعطاء، لما شيع من بيت "السيد" شهيد للوطن والقضية يدعى "هادي"! وبعد، هل ثمة إدراك لمغزى الرسائل التي أطلقها السيد، تلك التي تدور حول حقيقة أثبتتها شعوب العالم، ومنها الشعب العربي الفلسطيني، وهي أن الأوطان لا تتحرر إلا بدماء الشهداء، وأن الثورة تحتاج إلى وقود من التضحيات، والمشاعر والأحاسيس الإنسانية لا تعمل خارج دوائر الوطن، وهي تسمو بالإنسان وتمنحه الدافع الحقيقي للعطاء والتضحية. إلى ذلك، لنرفع "القبعة" لـ "السيد" ليس مرة... إنما باستمرار طالما بقى حكيما ومحنكا، سياسيا متنورا وإنسانيا!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1114 - الجمعة 23 سبتمبر 2005م الموافق 19 شعبان 1426هـ