مازالت تداعيات إعصار كاترينا الذي ضرب عددا من الولايات الجنوبية في نهاية الشهر الماضي تهيمن على المزاج العام في الاجواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعدما أدى الاعصار المدمر الى حصيلة غير نهائية لعدد من القتلى بلغت 800 قتيل، حسب أجهزة الاغاثة، وآلاف النازحين الذين دمر الاعصار مدنهم وكلفهم خسائر مادية تقدر بمئات المليارات. الاعصار المدمر الذي اعتبر واحدا من أسوأ أربعة إعصارات شهدتها الولايات المتحدة الاميركية قد يحتاج لأعوام طويلة قبل أن تعود الولايات المتضررة إلى ما كانت عليه بحسب آخر تصريحات لمسئولين في الادارة الاميركية. رياح الاعصار لم تحصد فقط ارواح اهالي المدينة المنكوبة، بل امتدت ايضا الى اروقة السياسة الأميركية، إذ كان أول ضحاياها رئيس وكالة ادارة الطوارئ الاتحادية الاميركية مايكل بروان الذي اضطر للاستقالة امام سيل الانتقادات التي تعرضت لها ادارته جراء التقصير في التعامل مع الكارثة الانسانية التي وصفت بـ "الفضيحة القومية". وأمام هذه الحملة الواسعة من الانتقادات بين أوساط الاميركيين وقف الرئيس الاميركي جورج بوش ليعترف بمسئولية جزئية في تعامل ادارته مع الكوارث الطبيعية، أو أي هجوم قوي قد تتعرض له الولايات المتحدة. امام تداعيات كارثة كاترينا في المشهد السياسي عقد الكونغرس الاسبوع الماضي جلسة طارئة أقر خلالها مساعدة أولى بقيمة 10,5 مليارات دولار في الوقت الذي يتوقع فيه المشرعون ان يصل مبلغ المساعدات الى 200 مليار دولار. أما على الصعيد الاجتماعي فقد سجلت المساعدات الانسانية ارقاما غير مسبوقة، حين تم تجميع ما يصل الى 587 مليون دولار من خلال الجمعيات الخيرية، وهو ما يفوق ما تم جمعه في أعقاب هجمات سبتمبر/ايلول 2001 وكارثة تسونامي.
عاصمة الجاز
غرقت نيو اورليانز، وأغرقت معها مئات من القتلى الذين لم تحص أعدادهم بعد، وشردت الآلاف من سكان المدينة الذين هربوا بحثا عن الأمن نحو ولايات مجاورة على رأسها ولاية تكساس، إذ استقبلت مدينة هيوستن وحدها أكثر من 200 ألف نازح ممن فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم ومدينتهم التاريخية التي تحولت الى مدينة اشباح. هنا في مدينة هيوستن تحول استاد استردوم والمنتزه المجاور له إلى ملجأ كبير تم تجهيزه بالأسرة والمستلزمات الطبية وفرق من المتطوعين لمساعدة ضحايا كاترينا وتقديم الرعاية اللازمة لهم. المشهد لم يخل من تعزيزات أمنية كبيرة لمنع أية أعمال شغب أو خروج عن القانون خصوصا بعدما كان قد استغل الكثير من المجرمين أوضاع مدينة نيو اورليانز المأسوية وتحديات نقل آلاف الناس نحو مدن أخرى وقاموا بأعمال سلب ونهب واغتصاب شكلت وصمة عار في جبين الإدارة الحاكمة لولاية لويزيانا. أمام إحدى بوابات الاستاد إذ أنشئ مكتب للصليب الاحمر، يقف هنا آلاف من الناس في طوابير للحصول على بطاقات تصل قيمتها إلى 2000 دولار، كانت الحكومة قد أقرتها قبل أربعة أيام ليتم توزيعها على كل عائلة شردها الاعصار، في الوقت الذي وصل فيه عدد المسجلين حتى الآن الى .320000 ولم يختلف الوضع كثيرا بالنسبة إلى فنادق هيوستن التي تحولت هي الاخرى إلى ملاجئ لاستقبال الناجين من مدينة نيو اورليانز. وصلنا برفقة شولي "43 عاما"، وهي إحدى المتطوعات التي تشرف على توزيع المهمات على بقية المتطوعين الذين يعملون ضمن مجموعتها. وهي تعمل في احدى الشركات المتخصصة في تنظيم المؤتمرات، تطوعت للعمل لبضع ساعات يوميا لمساعدة الناجين الذين فروا الى مدينتها هيوستن من جراء الاعصار. تقول شولي: "قبل كل شيء انا ام لثلاثة اطفال، واستطيع تفهم محنة هؤلاء الناس. لقد فقدوا كل شيء وجاءوا فقط بالثياب التي يرتدونها. انها كارثة انسانية لا يمكن ان نقف مكتوفي الأيدي حيالها". وتضيف: "لقد حرصت ادارة الطوارئ في المدينة على توفير جميع الإمكانات للتعامل مع الأوضاع. والناس هنا يستجيبون بصورة كبيرة. هناك أكثر من 50 ألف شخص من مختلف الولايات تطوعوا لأجل مساعدة ضحايا كاترينا سواء بنظام الساعات أو لأيام، كما أعلنت شركات الطيران استعدادها لنقل الناجين بصورة مجانية لاي ولاية يريدون السفر اليها". وأشارت شولي الى ان ادارة الطوارئ تقوم بتوزيع اللاجئين على الملاجئ الثلاثة التي انشئت في المدينة قبل ان توفر لهم مسكنا مناسبا في شقق او مع عائلات من هيوستن أبدت استعدادها لاستقبال الناجين، على أمل التمكن من ذلك خلال الايام القليلة المقبلة. تقول شولي: "هنا يوجد 200 شخص هم بحاجة إلى عناية خاصة من المصابين بأمراض مزمنة او الذين لديهم أمراض عقلية. لقد استطعنا توفير اشخاص مؤهلين واطقم طبية للاشراف عليهم بصورة جيدة. كما توجد هنا حضانة تم تجهيزها للاعتناء بالاطفال دون سن العاشرة. هذه الامكانات لم تكن لتحقق دون تدفق التبرعات السخية من مختلف الناس". وفي سؤال لـ "الوسط" عما إذا كان الملجأ شهد أية حالات للخروج عن القانون تقول شولي: "لقد انخفض معدل الجريمة خلال الايام القليلة الماضية لان قوات الأمن التي تشرف على حماية الملجأ تقوم بالتأكد من دخول أي شخص. هنا يتم اغلاق ابواب الملجأ الساعة الحادية عشرة ليلا ولا يسمح بدخول أي شخص إلا بعد الساعة الخامسة صباحا. وذلك تفاديا لاي مشكلات أو حالات اعتداء". وتؤكد شولي ان هناك 3000 حالة تحرش جنسي سجلت حتى الآن لدى مكتب الأمن المشرف على الملجأ نتيجة لتعاطي بعض النازحين للمسكرات أو الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الناس جراء اوضاعهم. كما ان الكثير من ارباب السوابق تم نقلهم الى الملجأ لكن تم وضعهم تحت مراقبة الشرطة.
ما حدث أشبه بكابوس
تقول شولي: "الناس هنا في حال نفسية سيئة. بعضهم يذهب ليلا لتناول الكحول في محاولة للهروب من الواقع. لا أستطيع أن ألقي اللوم عليهم فهم فقدوا كل شيء. والاقامة بالملجأ أمر غاية الصعوبة حتى وان توافرت الإمكانات. كما ترون لا يوجد هنا أي خصوصية، والبعض هنا يضطر للجلوس لساعات طويلة أمام التلفاز أو النوم أو حتى الصمت لساعات طويلة". في داخل باحة الملعب المغطى والذي تحول الى مأوى لاستقبال اللاجئين ترقد شورينا راني "40 عاما" والتي وصلت الى ستاد اوستردوم قبل ساعات قليلة من وصول "الوسط" الى موقع الملجأ. طلبنا منها الحديث إلينا فوافقت بابتسامة لم تخل من ملامح التعب والاعياء. راني روت إلينا مشاهد لا يبدو انها قد تغادر ذاكرتها بسهولة. تقول: "لقد حاولت الخروج من المدينة بصحبة أطفالي الخمسة، ولم يكن هناك أي وسيلة نقل متاحة أمامنا. الحياة كانت معطلة تماما والناس لم يستوعبوا ما قد يحدث للمدينة خلال ساعات معدودة. استطعت تدبر وسيلة نقل من احد الجيران الذي تعهد بنقلي مقابل 50 دولارا، ووصلت الى الملجأ الذي اقيم في لويزيانا، الوضع كان شبه مستحيل هناك. أعداد كبيرة من الناس لم يحظوا بالرعاية اللازمة... لقد تحولت نيو اورليانز الى مدينة الموت".
لا أحد يهتم بالفقراء
لم تخف راني مشاعر السخط تجاه الحكومة وبطء تحركها لنجدة أهالي مدينتها بالقول: "نحن فقراء ولا أحد يكترث لنا، ما كنا نملكه - وان كان قليلا - خسرناه والآن لا نعلم الى متى سننتقل من ملجأ الى آخر. لا اعتقد ان المساعدات المالية تشكل كل شيء بقدر الحصول على سكن. لقد كنت امتلك مطعما صغيرا، والآن لا أمتلك شيئا، ولكنني أستطيع أن أعمل لأعيل أسرتي، فقط أحتاج إلى سكن". كارثي ويلز "56 عاما" هي الأخرى من مدينة نيو اورليانز، لا يبدو انها تعلم الكثير عن مصير افراد اسرتها جراء الفيضانات المدمرة التي اجتاحت مدينتها. تقول ويلز: "لا استطيع التعليق كثيرا على ما حدث. أنا هنا كبقية الناس، أعيش معهم في الحلقة نفسها. لسنا مختلفين بشيء. جميعنا من نيو اورليانز". ويلز كانت تعمل كجليسة في دار المسنين في نيو اورليانز وتعيش مع ابنيها اللذين يبلغان من العمر 22 عاما و23 عاما، كانت فقدت الاتصال بهم يوم الاحد الذي سبق الاعصار، وعندما بدأت المياه تغمر منزلها لجأت الى الطابق العلوي قبل أن تصل قوات الجيش وتبدأ عمليات الاغاثة.
صلاة للرب
وعن المساعدات والخدمات التي تقدمها ادارة الطوارئ في مدينة هيوستن تقول ويلز: "عندما تكونين في ظروف سيئة تقدرين كل شيء يقدم لك. لا أعتقد اننا في حال سيئ مقارنة بما مررنا به على مدار الاسبوعين الماضيين. كل يوم استيقظ في الصباح وأصلي شكرا للرب على منحي فرصة أخرى في هذه الحياة. كما أنني أحرص على مشاهدة الاخبار في الصباح. أحاول أن أتأقلم مع ما يحيط بي من ظروف". على رغم الجهود الذي تبذلها ادارة الطوارئ في مدينة هيوستن من حيث توفير كل المستلزمات الطبية والاغذية والمشروبات والحرص على احتواء هذا العدد الكبير من الناس في هذا الملجأ وغيره من الملاعب التي تحولت الى ملاجئ، إلا أن الاقامة في ملجأ أمر لا يبدو سهلا على الكثيرين. تولي "18 عاما" وصلت الى الملجأ برفقة والدتها وشقيقها الصغير، حدثتنا عن الظروف الصعبة في الاقامة بهذا الملجأ الذي اعتبر اكثر أمنا من غيره بالقول: "لا تستطيعين تصور الاقامة في الملجأ. أكره البقاء هنا كثيرا، لكن على كل الاحوال الوضع هنا يبدو أفضل مما كان عليه في ملجأ لويزيانا". آدمن "51" وجود "50 عاما" من البيض القلائل الذين التقتهم "الوسط" في ستاد استردوم. لقد كانا يعيشان في الحي نفسه في نيو اورليانز قبل ان يأتي الاعصار، ويلتقيان مصادفة أثناء عمليات إنقاذهم من قبل قوات الأمن القومي. يرى جود الذي كان يعمل في بيع الادوات المنزلية ان جهود الحكومة وان كانت تبدو الآن مؤثرة، إلا أنها جاءت متأخرة كثيرا إذ كان من الممكن التحرك بشكل أفضل والتعامل مع هذه الكارثة بشكل يخلو من التمييز المادي حسب قوله. يقول جود: "نعم كان هناك إعلان عما قد يحدث للمدينة بسبب تقدم الاعصار، لكن الحكومة تركت الاخلاء كقرار وجهد فردي للافراد. طبعا ان الذين يمتلكون المال انتقلوا بحافلاتهم، لكن ماذا عن الفقراء؟ هل لك ان تتخيلي محاولة 10000 شخص
العدد 1109 - الأحد 18 سبتمبر 2005م الموافق 14 شعبان 1426هـ