نخصص مقال هذا الأسبوع للحديث عن مؤسسة الاستفتاء التي تنص الدساتير على أنها إحدى المؤسسات الدستورية، وذلك بمناسبة ترديد الإعلام طيلة الأسبوع الماضي الحديث عن مشروع الدستور العراقي الذي سيطرح على الاستفتاء الشعبي يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول المقبل. وهذا المقال ليس له عمق سياسي: فقد تضمن مقالنا الأسبوع الماضي تقييمنا السياسي القانوني لمسودة الدستور العراقي التي قمنا فيها بقراءة نقدية. مقال اليوم يستهدف تمكين من ليست لهم ثقافة قانونية متخصصة من معرفة حقيقة وطبيعة مؤسسة الاستفتاء الدستوري، وهل هي آلية ديمقراطية مباشـرة أم أنها قاصرة عن ذلك ولا تعدو أن تكون ديمقراطية شبه مباشـرة؟ وذلك على غرار مصطلح تصنيف الديمقراطيات إلى ديمقراطية مباشرة وأخرى شبه مباشرة، أو شبه نيابية، وتقسيم النظم السياسية بين نظام رئاسي، أو شبه رئاسي، أو برلماني، أو شبه برلماني. وعادة توصف هذه الديمقراطيات والنظم بأنها نصف أو شبه مباشرة، سواء كانت نيابية، أو رئاسية، أو برلمانية. يتفق فقهاء القانون الدستوري على أن الديمقراطية هي حكم الشعب، أي إشراكه مباشرة في الحكم، أو بانتخابه لممثليه لينوبوا عنه في المشاركة فيه، أو باستشارته عن طريق الاستفتاء ليدلي برأيه الـملزم للحاكمين، سواء تعلق الأمر بالموافقة على الدستور أو رفضه أو تعديله، أو الموافقة على أحد الخيارات التي تطرح بالاستفتاء على الشعب لاختيار أفضلها. ويصبح بعد الاستفتاء الخيار المختار خيار الحكم الـملزم. وتتفق الدراسات الدستورية على أنه كلما تعددت الاستشارات الشعبية يصبح النظام ديمقراطية مباشـرة. وهي أمثل الديمقراطيات وأفضلها. أما الديمقراطية النيابية "أي التي يختار فيها الشعب نوابه" لينوبوا عنه في ممارسة الحكم فينظر إليها على أنها ناقصة أو غير مثالية، وتوصف بأنها ديمقراطية شبه "أو نصف" مباشـرة. "جان جاك روسو" عندما كان يقيم في سويسرا كان يعيش في نظام الديمقراطية المباشـرة، إذ يستفتى الشعب حتى في اختيار مكان إقامة مجاري المياه، أو تحديد بقعة أرضية لبناء مقهى فوقها. وكانت هذه الديمقراطية المباشـرة ميسورة بحكم قلة عدد السكان، وتقطيع الدوائر بمقتضى ذلك. لكنه عندما غادر سويسرا إلى فرنسا الواسعة اضطر إلى قبول الديمقراطية النيابية، واعتبرها ديمقراطية شبه "أو نصف" مباشرة لاستحالة تطبيق نظام الديمقراطية المباشرة في فرنسا الآهلة بالسكان. ويميل غالبية الفقهاء الدستوريين إلى اعتبار الاستفتاء الشعبي آلية تحقق الديمقراطية المباشـرة، لأن الشعب - وهو مالك السيادة - يمارس سلطة الحكم مباشرة بالاستفتاء. الاستفتاء هو المصطلح المتفق عليه في اللغة العربية، المرادف لكلمة "ريفراندوم" في اللغات الأخرى. الاستفتاء هو طلب الفتوى أي الرأي في الموضوع المطروح. ويأتـي في العربية مرادفا لكلمة الاستشارة أي طلب المشورة أو الرأي "والسين والتاء في العربية يضافان إلى الفعل فيصبح مفيدا للطلب". أما كلمة "ريفراندوم" اللاتينية الأصل، فتفيد هي أيضا طلب المشورة والرأي كما تفيد وضع تقرير لتقديمه إلى المعني به فردا أو جماعة لاتخاذ قرار بشأنه. وقد نـظـمت آلية الاستفتاء في الغرب بآلية إدلاء الناخب الذي يملك ورقة الانتخاب بصوته في الاقتراع للإجابة بنعم أو لا على سؤال قبول الدستور أو رفضه، أو سؤال تعديل مادة أو أكثر منه، أو لتزكية رئيس دولة ليعرف هل الشعب يبارك سياسته أم لا. وهذا النوع الأخير من الاستفتاء يطلق عليه اسم استفتاء التـزكية. وكثيرا ما يراد منه تزكية الدكتاتور الحاكم بأمره. ويطلق عليه في اللغات اسم "بـليـبـيـسيت". وعندما طرح الرئيس المصري أنور السادات على الاستفتاء الشعبي وثيقة أوفاق "كامب ديفيد" المبرمة بين مصر و"إسرائيل" سنة ،1979 وفازت بغالبية ساحقة قيل عن هذا الاستفتاء إنه حمل جواب التزكية لسياسة الرئيس المصري، وان الغالبية الساحقة من الشعب المصري زكـت وباركت عملية السلام مع "إسرائيل". في سويسرا - كما أشرنا إلى ذلك قبل - شاع وتكرر استعمال آلية الاستفتاء حتى أطـلـق على سويسرا اسم بلاد الاستفتاءات. وفي فرنسا طرح الجنرال "ديغول" على الشعب الفرنسي في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1958 دستور الجمهورية الخامسة بواسطة الاستفتاء. كما أن الملك الحسن الثاني طرح للاستفتاء مشروع الدستور المغربي الأول بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول سنة ،1962 وعرف هذا الدستور تعديلات طرحت على الاستفتاء كان أولها سنة 1970 وآخرها سنة .1996 بالنسبة للطبيعة القانونية لآلية الاستفتاء أزعم أنها ليست ديمقراطية مثالية، لأنها ليست ديمقراطية مباشرة ذلك أن طرح دستور للاستفتاء محتـو على عشرات المواد الدستورية وخيارات سياسية أو اقتصادية معينة، يجعل الشعب المستفتـى في حرج ليس سهلا التغلب عليه، لأنه يطلب منه أن يجيب بلا أو نعم على مجموع المواد المطروحة، وليس له بينهما خيار ثالث. ويترتب على ذلك أن يضطر الناخب إلى الإجابة بنعم عما يرفضه، وبلا عما يقبله ما يجعله يعرب بتصويته عن خلاف ما يريد. وعلى سبيل المثال فمسودة الدستور العراقي لم تأخذ في الاعتبار رفض السنة للفيدرالية، وتركتها ضمن مواد الدستور المقترح التي بلغت 139 مادة، ما يجعل جماعة السنة مضطرة إلى رفض الدستور كله في حين أنها لم ترفض منه في واقع الأمر إلا بعض مواده. ويترتب على ذلك أيضا أن ديمقراطية الاستفتاء تطبق أحيانا عكسيا بالإخلال بالمراد المتوخى منها. والعادة أن من يعارضون بعض المواد يجدون أنفسهم مضطرين إلى مقاطعة الاستفتاء على رغم موافقتهم على غالبية مواده. ومن منطلق هذه الاعتبارات القانونية ينبغي أن نقول عن ديمقراطية الاستفتاء إنها فقط شبه مباشرة. كان الأفضل أن يسبق طرح مشروع الدستور العراقي للاستفتاء طرح "القضايا الخلافية" على الاستفتاء في شكل سؤال خاص بكل واحدة منها: هل توافقون على أن يكون النظام العراقي فيدراليا أم نظام دولة موحـدة؟ وهل توافقون على أن يكون الإسلام دين الدولة ومصدر التشريع أم تفضلون ألا يتضمن الدستور طرح موضوع الدين والتشريع الديني بالمرة؟ وهكذا دواليك. وفي ضوء الجواب تضع لجنة كتابة الدستور مسودتها، ويـقدم الدستور للاستفتاء متضمنا المواد التي وافق عليها الناخبون بالغالبية أو الإجماع. هذه المقاربة التي نقترحها كان من شأنها أن توحد إرادة الشعب على الخيارات المطروحة على أساس أن ما أجمعت عليه الأصوات أو غالبيتها يصبح ملزما للجميع. وهذه هي الديمقراطية الحق. وكان في إمكان العراق الجديد أن يدشن هذه المقاربة، ويـثـرى بها الأداء الديمقراطي.
العدد 1102 - الأحد 11 سبتمبر 2005م الموافق 07 شعبان 1426هـ