لست من هواة مشاهدة الأفلام الهندية، وأسباب ذلك كثيرة ومتعددة، ولا داعي للتفصيل فيها. قد يختلف الكثيرون بشأنها، إذ هي تتباين عند البعض، ما بين الرغبة في المتعة ونسيان الهموم والتحليق في عالم من الخيال والرومانسيات، وما بين من يعارضها لأسباب، منها سرعة وتائر حركات الصور وتراقصها المعبر عنه بالرقصات والموسيقى والجري وتتابع الحوار وسرعته وعدم منطقيته أحيانا، إضافة إلى كثرة الألوان والزركشات وتشعبها إلى درجة التشويش، أما عن حبكة القصص فهي تتنوع ما بين الدراما والجريمة والعنف، ولطالما تميزت بالمثالية والمبالغة والتنقل المفاجئ ما بين المتناقضات اللامنطقية، من الفقر إلى الغنى، من البكاء إلى الضحك والعكس، وإظهار أبطال الفيلم وكأنهم سذج بالفطرة، أو سوبرمانات خارقة! آخر مرة شاهدت فيها فيلما هنديا كانت قبل ثماني سنوات في تلفزيون البحرين، إذ تركز نظري على مشهد حفزني على الضحك ملء شدقي، إذ شاهدت البطل الذي يؤدي دور الشرطي القائد وهو يمسك بكلب بوليسي كي يدله على المجرمين الهاربين في الغابة، فما كان من الشرطي إلا الركض إلى الأمام وبسرعة تفوق سرعة الكلب، والكلب البوليسي على خلاف العادة والمنطق في الأفلام الأميركية، يجري خلف الشرطي ولا يستطيع اللحاق به!
فيلم أكشن!
بالأمس وعلى النقيض من ذلك، ولأول مرة أقصد دار السينما خصيصا لمشاهدة فيلم الثــــورة "The Rising" الهندي والمصنف على أنه فيلم "أكشن"! السبب، قيل لي إنه على خلاف الأفلام الهندية التي اعتدناها، فمجريات حكايته تدور حول الانتفاضة الهندية التي أطلق عليها الإنجليز "تمرد السباهيين"، ويصنفها الهنود على أنها "بداية ثورة استقلال الهند" التي قادها "غاندي" في منتصف القرن الماضي. تدور حوادث الفيلم إلى ما قبل الثورة بعامين، أي قبل ،1857 البداية كانت بالسيطرة على جميع مناحي الحياة التجارية والاقتصادية والزراعية والاجتماعية من قبل شركة الهند الشرقية، إذ استولت على التجارة وطرقها والاقتصاد ووجهته لتحقيق أرباحها وأغراضها السياسية. نهبت الأراضي، واستغلت الفلاحين، ومارست الاضطهاد والتمييز العنصري ضدهم، فكانت نموذجا حيا للاستعمار الكولونيالي بكل ما استتبعه من متاجرة في الممنوعات: أفيون، رق وعبودية، واستغلال واستبداد. هذا ما جسدته حوادث الفيلم بشكل متسلسل وعلى وتيرة منطقية، فهذه الشركة كما يصفها النقيب الإنجليزي المنتظم في جيشها، بأنها شركة لها قوانينها وجيشها وإدارتها وإعلامها. قال ممثل مجلس إدارتها في الهند في إحدى حفلات الاستقبال: "إن سبب وجودهم بالأساس من أجل جلب الحضارة للهند وإشاعة العدالة"! في الفيلم تجسيد متحرك للمعاني العميقة التي تحتاجها الشعوب المظلومة، وفيه رؤية مثالية واضحة لحاجة أي ثورة إلى وقود وهم الثوار، وأنه لا توجد ثورة من دون دم وتضحية. بطولة الفيلم تجسدت في شخصية الثائر "مانغال" الذي يبدأ الفيلم بنشيد أغنية باسمه، وينتهي بها. تمثل البطل التضحية بحياته بكل حماس من أجل حريته وكرامته التي اعتبرها جزءا لا يتجزأ من حرية وكرامة الوطن، شنقه الإنجليز حتى يكون عبرة لمن اعتبر، بيد أن الثورة لم تخمد، ووضعت الأسس عند أقدام ثورة الاستقلال التي قادها المهاتما غاندي فيما بعد. وهذا ما يسلط عليه الضوء مخرج الفيلم في ختام المشاهد التي جمعت ما بين صور ثورة الاستقلال التي قادها "غاندي" وما بين مشهد شنق "مانغال". يمرر مخرج الفيلم أيضا وبسلاسة، العلاقة الإنسانية التي تنشأ ما بين النقيب الإنجليزي وما بين مانغال، تلك العلاقة التي اتسمت بالتسامح والقبول بالآخر والتأثر والتأثير عليها، وظلت بشكلها الإنساني الراقي وعلى خط متواز بين طرفين يفترض فيهما التناقض والعداوة اللدودة، مرت بأوقات حاسمة انتصرت فيها الذات على الآخر لدى كليهما، بيد أن كفة الميزان رجحت المبادئ والقيم الإنسانية وانتصرت في النهاية. فبعد شنق مانغال وبسبب تمرده "ثورته" على ظلم وسيطرة الشركة وسرقتها لخيرات الهند وممارسة الغش والفساد والظلم والاضطهاد للهنود، وبعد المحاكمة الصورية التي أجرتها إدارة الشركة له، انضم النقيب الإنجليزي فيما بعد إلى الثوار الهنود لمحاربة ظلم الشركة واستبدادها. أغينات الفيلم قليلة قياسا لما يعرض في الأفلام الهندية، وهي منتقاة بدقة، من حيث الكلمة واللحن والرقصات المرافقة، لا شك أنها اتسمت بطابعها الهندي الأصيل من حيث الحركات والملابس والرقصات، وهي آخذة، تبدو واضحة في بحة صوت بطلة الفيلم الهندية وهي تغني وتتمايل بأنوثتها الشرقية، والمظهر الذكوري للبطل الهندي الذي جمع ما بين الملامح ولون البشرة الشرقي الذي يعشقه وينجذب إليه الغربيون. الفيلم بحسب اعتقادي لا يقل في مستواه عن المعايير العالمية من حيث الإخراج والموسيقى والكاميرا التي تحركت بعقلانية، وأداء الممثلين ومشاركة غيرهم من غير الهنود. على أي حال، إنه فيلم يستحق المشاهدة للإضافة للمعلومات التاريخية التي بحوزتنا، ولاسيما أنه زخر بالكثير من المواقف الرومانسية العابرة إلى القلب، والمنعشة للروح والجسد.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1099 - الخميس 08 سبتمبر 2005م الموافق 04 شعبان 1426هـ