العدد 1095 - الأحد 04 سبتمبر 2005م الموافق 30 رجب 1426هـ

قراءة نقدية لمشروع الدستور العراقي

عبدالهادي بوطالب comments [at] alwasatnews.com

بحكم تخصصي القانوني في القانون الدستوري، وبوصفي أستاذا سابقا بكلية الحقوق المغربية طيلة عشرين سنة لمادة القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، وجدتـني مشدودا إلى متابعة التطورات التي عرفتها أعمال لجنة إعداد مسودة الدستور بالعراق. وهذا ما يسميه البعض الانحراف المهني، وأسميه - على الأصح - الاستعباد المهني. اطلعت على مشروع الدستور العراقي ودرسته بعناية، وتابعت مداولات اللجنة وعشت معها عن بعد تعثرات أعمالها بسبب الخلافات على قضايا سياسية لم يكن سهلا إيجاد أرضية مشتركة بشأنها للوفاق عليها، ما جعل المجلس الوطني يعطيها مهلة أسبوع للانتهاء إلى مشروع متوافق عليه، ثم أعطى مهلة ثلاثة أيام لم تـنته إلى اتفاق بين الأكراد والشيعة من جهة، وجماعة السنة من جهة ثانية، وإلى حين إعداد هذا المقال لم تصل لجنة كتابة مسودة الدستور إلى اتفاق.

قرأت بعناية المشروع وقمت فيه بدراسة نقدية، وانتهيت إلى أنه تكتنفه بعض النواقص بل حتى النقائص. ومرد ذلك إلى أن اللجنة لم تأتلف من قانونيين متخصصين في وضع الدستور، فجاء المشروع تبعا لذلك متضمنا مواد قانونية لا توضع عادة في الدستور القانون الأسمى، بل توضع في القوانين الوضعية الفرعية التي يعلو الدستور عليها. كما أغفل المشروع "أو المسودة" تدوين مواد قانونية أساسية توضع عادة في الدستور بدءا من مقدمته وأحكامه العامة إلى بنوده القانونية التي تنظم غالبيتها اختصاصات المؤسسات الدستورية الثلاث: التشريعية التنفيذية والقضائية. ويعاب على المشروع أيضا أنه لم يتقيد بالترتيب المعتاد في ترتيب مواد الدساتير، وأن ما يجمع عادة من مقتضيات قانونية في مادة تطول أو تقصر نجده موزعا في مشروع الدستور بين مواد مختلفة، ما عكس فقد صيغة المشروع للتقنية التي تـتحكم في صوغ الخبراء في وضع الدساتير. وأنصح أن يطلب إلى ذوي الاختصاص العراقيين "وحتى الأجانب ولم لا؟" أن يتولوا مراجعة الصيغة الراهنة من حيث الشكل قبل عرضها على الاستفتاء ليكتمل المشروع بذلك. القضايا الخلافية التي حالت بين إنهاء اللجنة عملها في الوقت المحدد كثيرة ومتنوعة، من بينها الاختلاف على تحديد هوية العراق وعقيدته، وطبيعة الحكم الذي يجب أن يسوده، ونظام الفيدرالية، وهل تقوم على أسس جغرافية، أو طائفية، أو عرقية، وما يتفرع عن هذه النقطة من تحديد دور الإسلام في مجال الحكم وحياة المجتمع، والانتماء العربي، والإسلامي، ورسمية اللغة العربية، وتوسيع وتقاسم الثروة الوطنية "وفي طليعتها الثروة النفطية" بين الأقاليم والطوائف، وقضايا فرعية أخرى لا تـنقص أيـة واحدة منها أهـمية عن الأخرى. وكان من بين القضايا الـمختلف فيها أن يعطي الدستور الشعب الكردي حقه في تقرير مصيره، ما يؤول إلى طرح استقلاله على الاستفتاء لإقامة الدولة الكردية المستقلة، لكن قيل إن ممثلي الأكراد في لجنة صياغة الدستور تنازلوا عن ذلك، من دون أن يعلن عما نالوه مقابل هذا التنازل. وبذلك يمكن القول إن القضايا التي لم يتم الاتفاق عليها إنما كان عليها اختلاف في الرؤية والاجتهاد.

وعلى رغم عدم الوصول إلى اتفاق فهذا الاختلاف مثبـر ومفيد، فوضع الدستور يعني التأسيس للعراق الجديد كما يعني صنع مستقبله وتحديد مصيره. وهذا شأن مهم وخطير، لا يجوز فيه الارتجال والتسرع، ويتطلب الوقت اللازم الذي لا يجوز اختصاره تحت ضغط أي مقتضى أو سبب. في الولايات المتحدة تطلب وضع الدستور الأميركي في صيغته النهائية ما يناهز ثلاث سنوات. أما في انجلترا "أم الديمقراطيات" فقد استغرق الانتقال الديمقراطي فترة سبعة قرون منذ إنشاء المجلس "البرلمان" في العشرين من يناير/ كانون الثاني سنة .1265 وإلى اليوم لا تتوافر إنجلترا على دستور مكتوب مدن، بل تـحكم بالدستور العرفي وبقوانين مضافة تشكل أقلية التشريع البريطاني. ولنعرف أكثر حقيقة النقاط التي كانت موضوع اختلاف نلخصها في أن الاختلاف كان على خيار أن يكون الدستور الجديد امتدادا للنظام الدستوري الذي أعـلن في العراق منذ سنة ،1925 وهو الذي نص على إسلامية العراق وعروبته ووحدة شعبه وترابه الوطني، أم يعكس الدستور الجديد تحقيق طموح بعض العراقيين إلى إقامة نظام علمانـي يتعامل بواقعية مع تفرق الشعب العراقي على فصائل مختلفة دينا وطائفة ومذهبا وعرقا: أي عراق متعدد الهويات موزع بين فصائل وطوائف. وهنا مربط الفرس كما يقال. لقد قام عدد من القانونيين والمفكرين العرب بمعارضة مشروع الدستور الذي أعدته ببغداد لجنة الصياغة، بالإعلان عن مشروع دستور بديل يبدو لي بعد أن قرأته بعناية أنه من صنع خبراء تقنيين. وجاء سالما من الهنات التي حملها مشروع الدستور الذي أعلن عنه ببغداد، وفي شكل وثيقة قانونية توفق بين توجهات العراق التاريخية وبين تطلعاته اليوم إلى الحداثة والمعاصرة.

وهذا المشروع لن يعرف طريقه إلى الوجود لأنه فقط من عمل قانونيين لا تمثيلية لهم. لكن أود أن أتوقف عند نقطة الفيدرالية لتسليط الأضواء عليها بعد أن قرأت ما كتبه عنها عبر الإعلام العربي مجموعة ممن يجهلونها وتحدثوا عنها من منطلق الجهل بها. ومما جاء في صحيفة عربية عنها قول سخيف مفاده أن كلمة الفيدرالية عربية، وفعلها هو فدر الذي يعني في العربية انقطع وانعزل. واستنتج الكاتب من ذلك أن الفيدرالية نظام انعزال وقطيعة.

وهذا النوع من الاجتهادات اللغوية يدخل في لغو القول السخيف. وكنت سمعت البعض يحكي نكاتا لغوية مضحكة للترفيه، فيقول: إن "شيكسبير" هو الشيخ زبير، وعلى ذلك فهو عربي، وأن "بيروت" كلمة عربية تعني بير حوت "دون أن نسمع عن وجود حوت في البـير". ويقول العقيد القذافي "وأتمنى أن يكون مازحا" إن الديمقراطية هي ديمومة الكراسي. الفيدرالية لا علاقة لها بالعزلة والانقطاع بل هي نظام جمع لوحدات متفرقة. وأنقل تعريفها القانوني من كتابي "المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية" الذي جعلت منه مرجعيتي لتدريس مادة القانون الدستوري في الجامعة المغربية، وجاء في الجزء الأول منه "الصفحة 147" ما يأتي: "الدولة الاتحادية "أو الفيدرالية" دولة مركبة من مجموعة ولايات أو جهات تشترك مع بعضها في اتحاد توضع على رأسه دولة عليا تزاول سلطات الحكم المركزي "أو الفيدرالي"، وتكون للولايات في القاعدة مؤسساتها الحاكمة، ودستورها الخاص، وقضاؤها ومجالسها المنتخبة. وتساهم بواسطة نوابها في المجالس الفيدرالية. والحكم الفيدرالي يمارس سلطاته في القمة، ويختص بممارسة سلطة الدفاع والشأن الدبلوماسي الخارجي وتمارس فيه المحكمة الفيدرالية العليا صلاحياتها، وعنه تصدر العمـلة الوطنية الواحدة. كما يمارس الحكم الفيدرالي كل ما يتصل بممارسة السيادة الوطنية التي لا تقبل التجزئة".إن الفيدرالية نظام مشاركة لا مركزي تتقاسم فيه الولايات في القاعدة الحكم مع الحكم المركزي في الأعلى الذي يقيم مرافقه الإدارية بالعاصمة، ويكون له الدستور الفيدرالي المهيمن على الدساتير المحلية الجهوية الإقليمية. والنظام الأميركي يطلق على الجهات المتحدة اسم الدولة وعددها .50 والترجمة العربية فضلت تسميتها بالولاية، ففي العربية نقول نظام الولايات المتحدة، ولكن في اللغات الأخرى يقال عن النظام الأمريكي إنه نظام الدول المتحدة "tats unis" بالفرنسية "United states" بالإنجليزية. لكن الفيدرالية لم تقم في جهة من العالم على فوارق الدين، والمذهب، والطائفة، والعرق، واللغة، بل على تقسيم جغرافي إقليمي جهوي تذوب فيه الفوارق، وتلتقي به الفصائل على وحدة المواطنة والوطن والتراب والعملة الوطنية. وعلى ذلك ينبغي أن يقوم الاتحاد العراقي المقبل. أما غير ذلك فهو تكريس للتقسيم والتفتيت، ستصبح معه فيدرالية العراق حالة خاصة شاذة متميزة بندرتها، تجعل منها بدعة مستـهجنة.

العدد 1095 - الأحد 04 سبتمبر 2005م الموافق 30 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً