يمكن التوقع دوما في المجالات البشرية أن تختلف الآراء والمصالح والدوافع؛ بل ويتوقع أيضا أن يتمسك كل طرف في الخلاف برأيه؛ ولكن، يتوقع أيضا أن تظهر الحاجة إلى الوصول إلى "حل"! وهنا يدخل دور و فكرة "الحل الوسط"، والحلول "التوافقية"، استعانة بمبدأ "الحل الوسط" والتركيز على "الوسط" و"الوسطية"، مع الابتعاد عن "الطرفانية" و"التطرفية".
ومع أن في ثقاتنا وتنشئتنا بعض المقولات وشيئا من المحفوظات الإيجابية، مثل: "خير الأمور الوسط الوسيط... وشراها الإفراط والتفريط"؛ وكذلك: "خير الأمور أوساطها"، إلخ... إلا أنه يبدو لي أن في ثقافتنا إشكالية معينة حيال مبدأ "الحل الوسط"... إذا ما ولجنا حيز التطبيق والتنفيذ والواقع. وإضافة إلى ذلك، فإننا غالبا ما نجد في المشهور في تراثنا ما يدفعنا إلى التطرف أكثر من دفعنا صوب التوافق، وإلى التوتر إلى مرحلة القطع والانقطاع، بدلا من "الوصول إلى حل".
وما يبدو أثره علينا بصفة سلبية متجذرة ما كان في بعض مقولاتنا المتداولة مثل: "نحن أناس لا توسط عندنا، لنا الصدر من دون العالمين أو القبر"!
"وفي هذا - في رأيي- يكمن جذر المشكلة ومصدر البلاء".
كما نجد أن ما ينفخ في امور التطرف بيننا، ويزيد في شد أوتار التوتر عندنا، أن لغتنا اليومية عامرة بالإطلاقية في التعبير والتفكير الحدي؛ ففي مكان الحاجة إلى استخدام كلمة "بعض" أو "معظم"... تجدنا بشيء من السلاسة نستعمل كلمة "كل"؛ كما يكثر استعمال كلمات مثل: "طبعا!" و100 في المئة "مية في المية!"؛ "هيا كده، و ما يبغى لها حكي!"؛ وتجدنا نواصل في مثل هذه العبارات الإطلاقية، فنقول: "هذا شيء لا يختلف عليها اثنان"، و في عبارة: "لا ينتطح عليها عنزان""!"... و هلم جرا.
وتجدنا حتى حينما نستعمل العبارة المطلوبة، "الحل الوسط"، فبدل أن نقدم لفظة "الحل"، كما في تلك العبارة... تجدنا نشير إلى العبارة بشيء من الاستخفاف والتهكم، فنقول: "هذه انصاف حلول!" بتقديم النصف، وكأننا نقول: هذا ليس بالحل، بل ما هو إلا نصيفه... وبالتالي، فهو غير مقبول! ثم ما نلبث أن نقفل عائدين للأسف - إلى: "لنا الصدر"!
ولا أدري كيف ننسى أن لفظة "الإنصاف" ذاتها في أصلها العربي قد كانت - في أيام عقلانية وصفاء والفكر البدوي - تعني "النصف"! فظلت فكرة "الحل الوسط" بلفظتيها غريبة في اللغة العربية للأسف؛ ونجدها تأتي كفكرة مترجمة وفي لفظتين اثنتين، بينما هي في الإنجليزية - مثلا - في كلمة واحدة "Compromise" ولها في تلك اللغة وفي تلكما الثقافة - تعريف شعبي طريف يقول: فكرة الحل الوسط ""الكومبرومايز"" هي "فن تقسيم الكعكة وتقديمها إلى عدة أشخاص أو جهات... بطريقة شعر "بل يجزم" معها كل طرف أنه حصل على القطعة الأكبر!"
ومن المجال العالمي، أود سرد فقط مثالين مختصرين لتطبيقات فكرة "الحل الوسط"، يشيران إلى حادثة وقعت أثناء تأسيس منظمة الأمم المتحدة فكانت حركة مفصلية كأن تكون المنظمة أو لا تكون؛ والمثال الآخر يتصل بنشأة الولايات المتحدة... أيضا بصفة مفصلية حاسمة في أن تقوم الولايات المتحدة أو لا تقوم.
أما المثال التأريخي الأول، فكان حينما أشار ستالين إلى عدد "الجمهوريات" "16" الواقعة في "الاتحاد السوفياتي"، ورأى لزوم أن يحصل كل منها على عضوية المنظمة الجديدة المنشأة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وخاصة بعد أن كان للاتحاد السوفياتي الباع الطويل - إن لم يكن الأطول - في كسب الحرب وحسم النتيجة. وجاءت نتيجة المفاوضات بين الاتحاد السوفياتي وأميركا وحلفائها أن قبلت أميركا بمنح العضوية - في الجمعية العمومية - لاثنتين من "الجمهوريات" -أوكرانيا وروسيا البيضاء - إضافة طبعا إلى عضوية الاتحاد السوفياتي مع منحه "حق الفيتو" في مجلس الأمن. وبذلك تم التوافق... وعلى هذا قامت الأمم المتحدة.
أما المثال المفصلي الثاني، فكان في نشأة وتكوين الولايات المتحدة ذاتها. فلقد كان هناك خلاف عميق بين "المناطق" /"الولايات" الـ13؛ وموضوع الخلاف كان في مسألة "تمثيل" مختلف الولايات في "الكونغرس"؛ فكانت هناك الولايات الكبيرة ذات الكثافة السكانية الكبيرة... مفارقة ببعض الولايات الصغرى التي لا تعادل مدينة واحدة في إحدى الولايات الكبرى. وجرى الجدل والنقاش، وتبين أن تمثيل الولايات كلها بـ "الوزن" نفسها في الكونغرس هو حل جائر وقسمة ضيزى. وبعد جدال طويل توصل المؤتمرون إلى حل وسط - سجله التاريخ باسم "توافقية كونيتكيت"، اقترحها وفد ولاية "كونيتكيت"؛ وفحوى ذلك الحل "الوسط" أن يكون هناك مجلسان اثنان: مجلس النواب ومجلس الشيوخ / الأوصياء؛ فيضم الأول أعضاء منتخبين يعكس عددهم كثافة السكان، بينما يضم الثاني عضوين اثنين منتخبين عن كل ولاية "مهما صغرت أو كبرت". وبذلك حصل التوافق... وتم حفظ مصير الاتحاد الوليد، والتمام شمله، وعصم من النفاد.
فنحتاج نحن إلى انتشار فكرة "الحل الوسط" في ثقافتنا بعامة، وفي تطبيقاتنا الحياتية، حتى اليومية منها، فنتحاشى الحدية والتطرف... وحتى لا يفوتنا الكثير من فرص العيش في وئام، وحتى نكثر من مجالات التعايش في نماء وسلام.
العدد 1095 - الأحد 04 سبتمبر 2005م الموافق 30 رجب 1426هـ