العدد 1095 - الأحد 04 سبتمبر 2005م الموافق 30 رجب 1426هـ

الاعتذار المتأخر لسناتور أميركي

سمير عواد comments [at] alwasatnews.com

في الجناح رقم 422 في مبنى مجلس الشيوخ الأميركي ملصق كبير يظهر فيه صبي في السادسة من العمر وهو ممسك بالعلم الذي يغطي نعش والده الجندي الذي سقط في حرب العراق. ويبدو كأن الصبي لا يريد ترك العلم. ربما أجبروه لاحقا على ذلك. يقول والتر جونز إنه ينظر مرارا لهذه الصورة كل يوم: صورة حزينة جدا.

والتر جونز عضو في مجلس الشيوخ في واشنطن وحين يقص على معارفه المواقف التي شاهدها وهو يشارك في تشييع الجنود الأميركيين العائدين في صناديق خشبية من العراق فإنه يهز رأسه كأنه في حيرة من أمره.

ينحدر جونز من ولاية نورث كارولاينا وهو من شيوخ المقاعد الخلفية ويشغل مقعده منذ أحد عشر سنة. على رغم أنه يصف نفسه بالجندي الذي يعمل في خدمة الحزب الجمهوري إلا أنه ليس شخصية مهمة داخل حزب الرئيس جورج دبليو بوش.

مرتان في حياته استطاع السناتور جونز أن يظهر اسمه في الأخبار. المرة الأولى والتي ما زالت في ذاكرة الذين اهتموا بالنزاع الذي نشأ بسبب أزمة العراق بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الذين عارضوا شن حملة عسكرية ضد هذا البلد العربي، مثل فرنسا وألمانيا بصورة خاصة، برز اسم والتر جونز في الأخبار لأنه وصف المعارضين الفرنسيين بالبطاطا الفرنسية المقلية French Fries. وجاء في النبأ الذي وزعته وكالة الأنباء البريطانية "رويترز" في العام 2003 على العالم أنه بسبب غضب السناتور جونز من معارضة فرنسا لحملة عسكرية جديدة أن جونز طلب كرد فعل أعضاء مجلس الشيوخ على موقف فرنسا الامتناع عن تسمية البطاطا المقلية French fries واستبدال الاسم بـ "بطاطا الحرية" Freedom Fries. بعد أيام قليلة على رواج الخبر عاد والتر جونز ليصبح رجلا غير مهم لحزبه من جديد. يعترف جونز اليوم لمحدثيه بأنها كانت قصة سخيفة ويقول ليتها لم تحصل.

لا يشعر والتر جونز فقط بالندم على قصة البطاطا الفرنسية بل يريد أن تنتهي حرب العراق التي يعتبرها فاشلة. بالتنسيق مع زملاء له ينتمون للحزب الديمقراطي المعارض، طرح على "الكونغرس" مشروع قرار يطالب بوش البدء بسحب القوات الأميركية تدريجيا من العراق. وفقا لما جاء في المشروع ينبغي بدء عودة أول دفعة من الجنود في أكتوبر/ تشرين أول العام 2006 بغض النظر عن كيف سيكون الوضع في العراق. لكن والتر جونز يشعر أنه يسعى للقيام بدور يعبر عن رغبة الجنود وعائلاتهم في وضع نهاية للمعاناة نتيجة الحرب وعدم وجود خطة زمنية لانسحاب قوات الاحتلال وهو بذلك يحاول إرضاء ضميره.

يبلغ والتر جونز من العمر 62 سنة ويقول إنه كاثوليكي متشدد. خدم والده 26 سنة في مجلس الشيوخ وكان يقول: البلد أولا ثم الحزب. ورث والتر هذا الشعار عن والده. يعلم والتر أن المعارضة التي يبديها لحرب العراق من شأنها أن تكلفه منصبه بحيث لايصار لإعادة انتخابه. لكن والتر يقول: كل شيء بيد الله. ردا على معارضة جونز وفئات متزايدة من الأميركيين للحرب ومطالبتهم بعودة الجنود يقول البيت الأبيض أن سحب القوات الأميركية سيشجع المتمردين. تعرض جونز إلى انتقادات داخل الحزب كي يسحب اقتراحه لكنه لم يعبأ لمنتقديه. وهو يقرأ الصحف ويتابع ازدياد عدد المواطنين الأميركيين الذين لا يفهمون لماذا بدأ بوش الحرب وإلى ما ستؤول إليه وخصوصا أنه تم تقديم أدلة قاطعة على أن العراق لم يكن يملك أسلحة الدمار الشامل وهذا ما يقوله جونز باستمرار منذ أن غير موقفه تجاه الحرب. لعل أكثر ما يتمناه والتر جونز أن يقف مسئول أميركي كبير، حبذا لو كان بوش أو نائبه تشيني أو وزير الدفاع رامسفيلد ليعتذر للشعب الأميركي عن الاتهامات الخاطئة التي كلفت حرب وقتلى ومازال يقع ضحيتها مدنيون وجنود في العراق.

ما الذي دفع السناتور والتر جونز ليغير موقفه من حرب ساندها في البداية. يشعر أنه راح ضحية عملية خداع من الطراز الأول. تحمس والتر جونز في بداية الحملة ضد نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين ووجد أن الإطاحة بهذا النظام واجبا وطنيا. شعر بغضب شديد لأن المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي جاك شيراك عارضا الحرب. راح يزور الثكنات العسكرية في ولايته نورث كارولاينا وكان في خطبه ينتقد الحلفاء الخونة في أوروبا بشدة. ثم أطلق التسمية الجديدة للبطاطا المقلية Freedom Fries بدلا من French Fries واتصل به صاحب مطعم "هامبورغر" أخطره بفخر واعتزاز أنه استجاب لدعوته ولم يعد يقدم البطاطا المقلية بتسميتها المعهودة وطلب الحصول على دعم من جونز الذي كان مسرورا للاهتمام الذي لاقته دعوته.

بالتنسيق مع زميله السناتور بوب ناي الذي ينتمي أيضا للحزب الجمهوري، والذي يرأس لجنة الشئون الإدارية في الكونغرس، سعيا من أجل تغيير اسم البطاطا المقلية في مطعم مقر مجلس الشيوخ لتسمى بطاطا الحرية وكان هذا قبل تسعة أيام من بدء غزو العراق. كما تم تغيير اسم الخبز الفرنسي المحمص French Toast لكن المطبخ الألماني لم يمس لأن الهامبورغر الذي يعود لاسم مدينة هامبورغ رائجا في الولايات المتحدة مثل اسم الدولار. أما المقانق الفرانكفورتية فقد سبق وغير الأميركان اسمها إلى هوت دوج منذ عقود طويلة بسبب نقمتهم على ألمانيا التي حملوها ذنب إشعال نار الحرب العالمية الأولى.

يقول والتر جونز انه يصعب عليه أن ينظر في عيون الجنود لأنه أيد الحرب في البداية وكم كان مخطئا في موقفه. مازال مطعم الكونغرس يقدم البطاطا المقلية بتسميتها الجديدة لكن جونز امتنع منذ وقت عن تناولها. تغير السناتور والتر جونز كثيرا بعد انقضاء أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع حرب العراق وسقوط أكثر من 1800 جندي أميركي ناهيك عن عشرات الآلاف من القتلى العراقيين وغالبيتهم من المدنيين.

وهو يعبر عن ذلك بوضوح: خارج مكتبه في مبنى الكونغرس علق جونز صورة في حجم طابع بريد لكل جندي أميركي لقي حتفه في العراق. يحمل اسم معرض الصور: وجوه القتلى. يتعرض جونز لمضايقات من إدارة مبنى الكونغرس كي ينقل الصور إلى مكان لا يلفت الانتباه. إنها وجوه الجنود القتلى الذين سقطوا في حرب يشك السناتور والتر جونز بجدواها. بدأت شكوكه في الحرب قبل عامين حين شارك في تشييع العريف مايكل بليتز في ليجون كامب وكان هذا قد سقط في مواجهة مسلحة جرت في الناصرية ولم يكن قد شاهد مولوديه التوأم. شارك جونز بعدها في جنازات كثيرة، كل مشاركة تزيد شكوكه وأحزانه كما تؤكد المتحدثة الصحافية باسمه. حتى اليوم يجلس والتر جونز في المقعد الخلفي. لكنه يعرب عن تعاطفه مع عائلات الجنود القتلى بصورة تزيد عن ما يبديه بوش من مشاعر. وقد كتب حتى اليوم 1300 رسالة تعزية ولا يتصور أنه سيتوقف عن ذلك في القريب. انه يفعل ذلك بكل طيبة خاطر وكأنه يريد أن يقول إنه يعتذر عن تأييده السابق لحرب العراق.

العدد 1095 - الأحد 04 سبتمبر 2005م الموافق 30 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً