من يملك الجرأة الكافية ليرى صورا تقزز الأبدان أخذت في العراق ويظهر فيها ضحايا الحرب التي ترفض أن تتوقف، عليه أن ينقر في شبكة الإنترنت على هذه الصفحة: WWW. salon.com ليرى الصور التي لا تريد واشنطن أن يراها الشعب الأميركي ولهدف مواصلة الإيحاء بأنها حرب نظيفة. ليس سرا أن وزارة الدفاع الأميركية أوصت أجهزة الإعلام المحلية بعدم نشر صور مرعبة عن الحرب وثارت على محطة تلفزيون "الجزيرة" العربية أكثر من مرة لأنها تبث الصور التي لا تريد واشنطن أن يشاهدها أحد، جثث الجنود الأميركيين والتوابيت التي تنقل سرا عبر ألمانيا إلى المدن الأميركية. حتى اليوم لم يشارك الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بالتشييع في جنازة واحد من جنوده الذين زج بهم في حرب لا يملك بوش ولا المعارضة الأميركية حلا للخروج من مأزقها. بينما زاد عدد الجنود الأميركيين الذين سقطوا في الحرب بعد إعلان بوش نهايتها رسميا في الأول من مايو/ أيار العام 2003 عن 1700 جندي فإنه ليس هناك إحصاءات صادقة عن عدد العراقيين الذين سقطوا منذ اندلاع الحرب في 20 مارس/ آذار العام 2003 غير أنه من المؤكد أن العدد يقدر بعشرات الآلاف وحمام الدم مستمر. 61 في المئة فقط من الشعب الأميركي يؤيدون سياسته في العراق. تراجع تاريخي في عدد المؤيدين. عوضا عن قضاء الإجازة فإنه يقضي وقته بالإدلاء بتصريحات صحافية ليستدر عطف عائلات الجنود.
"أريد الحقيقة" الكلام مكتوب باللون الأسود على قميص سيندي شيهان أبرز خصم للرئيس بوش التي قد تقود معركتها ضد حرب العراق إلى خسارته منصبه. ولعل أهم ما أفلحت به هذه الأم التي فقدت ابنها الجندي في الحرب، أنها تسببت بصحوة خصوم الحرب وبدأت تجمع صفوفهم حولها فيما يرى المراقبون أن حركة السلام الأميركية التي ساهمت في نهاية حرب فيتنام عادت إلى الظهور وأن سيندي شيهان هي الوجه الجديد لهذه الحركة. السؤال الذي تكرره شيهان والموجه إلى بوش: لماذا يموت أبناؤنا في العراق؟ قال بوش في الأسبوع الماضي معلقا على موقف شيهان: إنني أحب الذين يحتجون، لكن موقفي من الحرب يختلف عن موقفها، فنحن في العراق من أجل نشر السلام والديمقراطية. كلاهما لم يتحققا بعد. خارج مزرعة بوش في بلدة كروفورد في ولاية تكساس أقامت سيندي أول معسكر لحركة السلام الأميركية الجديدة لأنها أرادت أن تشعر بمعاناتها. وهي منذ وقت تتحدى رئيس أقوى دولة في العالم والشمس الحارقة التي تزيد عن 40 درجة وكذلك الحشرات التي منها ما يسبب أمراض الحساسية وكما أبلغ شريف المدينة المراسلين الأجانب هناك ثعابين في الجوار. لكن هذا كله لم يمنع المئات من مؤيدي شيهان ومعارضي حرب العراق الذين أتوا من مختلف أنحاء الولايات المتحدة من الانضمام لها متحدين الطبيعة. وقد تنبه مؤيدو بوش وحرب العراق للاهتمام الإعلامي العالمي بما تقوم به سيندي شيهان فأتوا بأنفسهم ليعلنوا تضامنهم مع بوش وللدفاع عن مقولة إن الحرب تحولت إلى مأزق للولايات المتحدة. لم يسبق وأن اعتادت كروفورد الصغيرة على مثل هذا الوجود البشري. ورفع معارضو بوش لافتة كتب عليها: بينما بوش يمارس رياضة صيد السمك سقط 82 من جنودنا في العراق. رسالة واضحة مفادها أن حركة السلام بقيادة الأم المنكوبة سيندي شيهان أتت إلى مزرعة الرئيس لتفسد عليه الإجازة الصيفية.
المواجهة بين خصوم الحرب ومؤيديها تظهر عمق الانقسام بشأن الحرب داخل المجتمع الأميركي. وهم يشتمون بعضهم بعضا ويكشفون عدم جدوى النقاش فكل متشبث بموقفه. غالبية خصوم بوش ومنهم سيندي شيهان أيدوا الحرب في البداية ثم وجدوا كيف أنها أوقعت الولايات المتحدة والشعب الأميركي في مأزق. بينما الرئيس يقضي الإجازة في مزرعته فإن خصوم الحرب يقضون أيامهم في الجوار وفي مواجهة الطبيعة التي يتم تبادل النصائح بين الخصوم والمؤيدين بشأن كيفية الوقاية من أشعة الشمس وهكذا يتطوع جنود سابقون في نصيحة المتظاهرين في المعسكرين بوضع زجاجة من الماء البارد على الرأس ورش الجسم بالماء باستمرار.
تسببت أم جندي سقط في حرب العراق بهذه "الهيصة" التي اجتذبت وسائل الإعلام من أنحاء الولايات المتحدة ومن خارجها وعكرت مزاج الرئيس الذي كان يرغب بأن ينسى مشكلة العراق بعض الوقت لكنها راحت تطارده هذه المرة إلى عقر داره. أصبح الشعب الأميركي برمته يعرف من تكون سيندي شيهان. أصبح للمعارضة وجه وشجعت أمهات الجنود الذين سقطوا في حرب العراق على النهوض من كبوة أحزانهن ومشاركتها توجيه السؤال إلى بوش: لماذا مات أبناؤنا في العراق؟ لا يختلف اثنان في الولايات المتحدة على أن من يشغل الأميركيين منذ وقت على الأكثر خلال العطلة الصيفية هما الأم المنكوبة والرئيس الغاضب.
جاءت سيندي شيهان بتاريخ السادس من أغسطس/ آب إلى كروفورد وافترشت الطريق في مكان مجاور لمزرعة جورج دبليو بوش. آنذاك تطلب توجيه أسئلة مباشرة إلى الرئيس وقالت في أول تصريح لها بعد أن راحت وسائل الإعلام المحلية تأخذ كلامها على محمل الجد: لا اعتقد أن ابني كيسي مات من أجل قضية عادلة. يرفض بوش الاجتماع بالأم المنكوبة لكنه مجبر على مواجهة أسئلة يطرحها الصحافيون باستمرار عنها ويسعى للرد على تصريحاتها كلما اضطر للخروج من المزرعة. عبر وسائل الإعلام نشأ الحوار الذي لا يريده بوش، إنه الحوار بين الرئيس الذي أمر بغزو العراق وأم جندي فقدت ابنها في هذه الحرب لأسباب لم تعد تراها منطقية. لم تضعف المعارضة الأميركية الرئيس بوش مثلما تعمل سيندي شيهان منذ السادس من أغسطس/آب حين أصبح يترتب على بوش الدفاع باستمرار عن قرار غزو العراق وقال: نحن مدينون للذين سقطوا في هذه الحرب وسوف ننهي المهمة التي قضوا من أجلها.
تبلغ سيندي شيهان 48 عاما من العمر تمتاز بصوت شابة صغيرة، وهي عاطلة عن العمل. عيناها حزينتان وكتبت اسم ابنها على قدمها اليسرى. كان ابنها كيسي يرغب في أن يصبح قسيسا والتحق بالجيش ليجمع المال لتمويل دراسته. كان متدينا إلى حد أنه امتنع عن تعاطي الجنس حتى يتزوج. سقط كيسي في 4 أبريل/ نيسان العام 2004 في مدينة الصدر في بغداد حين تطوع لإنقاذ رفيق مصاب وكان يبلغ 24 عاما من العمر. آلام الأم هي التي جعلت سيندي شيهان أيقونة حركة السلام الأميركية الجديدة. قالت إنها قطعت صلتها بصديقة حميمة تعيش في سان فرانسيسكو حين بلغها أنها انتخبت بوش لولاية ثانية. هجرها زوجها لأنه رفض أن يعلن حزنه كما تفعل. رفضت العائلة فكرة تحدي الرئيس لكنها لم تقنع سيندي بالتراجع عن خطتها فتوجهت إلى كروفورد وأقامت خيمة صغيرة يتوسطها صلبان بيضاء على كل منها اسم أحد الجنود الذين سقطوا في حرب العراق ثم بدأت مشكلات الرئيس مع بدء الإجازة الصيفية.
في البداية أرسل بوش للأم المنكوبة ستيف هادلي مستشار البيت الأبيض للأمن القومي الذي حاول إقناع سيندي بوقف حملتها لكن الأخيرة لم تقتنع بما سمعته من المسئول الكبير في البيت الأبيض. قالت إنها تصر على لقاء الرئيس وإلا فإنها لن تغادر كروفورد طالما بوش موجود فيها. موكب الرئيس يمر أمام خيمة سيندي كلما توجه بوش إلى المطار ليقوم بزيارة قصيرة إلى بقعة من بقاع الولايات المتحدة.
يقر بعض الاستراتيجيين في الحزب الجمهوري الذي ينتمي له بوش بأنه كان خطأ عدم استقبال الأم المنكوبة والحديث معها. كان بوش يعتقد أنها ستتعب وتنسحب بخفي حنين لكنها أصبحت خلافا لتوقعاته اشهر امرأة في الولايات المتحدة يجري الحديث عنها في طول وعرض البلاد وتواجه بشجاعة جميع محاولات إحباط عزيمتها. خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي ظهرت على شاشات التلفزيون في عدد من البلدان الأوروبية خصوصا تلك التي عارضت حكوماتها حرب العراق. إنها ترمي العراقيل في طريق بوش الذي قال: "كل شخص له الحق في الاحتجاج لكن سحب القوات الأميركية من العراق سيضعف الولايات المتحدة". ضمن ما أجبر بوش على القيام به لتخفيف النقمة التي فجرها احتجاج الأم المنكوبة، زيارة عدد من عائلات الجنود الذين سقطوا في حربي أفغانستان والعراق. في يونيو 2004 كانت سيندي بينهم لكنها لم تكن بعد قد قررت شن حملتها ضد الرئيس.
في الغضون توسع حركة السلام الأميركية نشاطاتها في كروفورد وتصل كل يوم ثلاجات ومحركات كهرباء لتحسين المعيشة في المعسكر وهناك أيضا خدمة مواصلات وتقيم سيندي شيهان في عربة مزودة بمكيف. أطلق على المكان بوشتوك 2005 نسبة لمنطقة وودستوك التي كانت مرتعا لأكبر تجمع للهيبيين في القرن الماضي. يحلم أنصار معسكر السلام في الولايات المتحدة بصحوة الحركة لإجبار الرئيس على إعادة الجنود من العراق وفي معسكر كيسي في كروفورد بدأوا التشهير بشعار: هنا بدأت في العام 2005 نهاية حرب العراق. الملفت للنظر أن أحدا من قادة الحزب الديمقراطي المعارض لم يزر معسكر كامب كيسي ليس جون كيري وليس هيلاري كلينتون. لكن هذا أيضا لا يحبط عزيمة سيندي شيهان. في الثالث من سبتمبر/ أيلول تنتهي إجازة بوش وسيعود إلى البيت الأبيض في واشنطن. سيندي شيهان تخطط للحاق به وستنقل مخيمها إلى جوار البيت الأبيض. سيندي شيهان وجه حركة السلام الأميركية. أين وجه حركة السلام العربية؟
العدد 1093 - الجمعة 02 سبتمبر 2005م الموافق 28 رجب 1426هـ