العدد 1092 - الخميس 01 سبتمبر 2005م الموافق 27 رجب 1426هـ

فضل الله: إرهاب القانون يصنع إرهاب الواقع

أبدى خشيته من أن يستعاض عن نزع الأسلحة باستخدامها في فتن مذهبية

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

رأى المرجع الديني السيدمحمدحسين فضل الله، أن القانون الدولي أصبح رهينة بيد أميركا و"إسرائيل" متخوفا من أن إرهاب القانون يصنع المزيد من إرهاب الواقع. وأبدى خشيته من أن يستعاض في مراحل لاحقة عن عناوين نزع الأسلحة لمصلحة تحريك السلاح في الفتن الداخلية وفي ظل عملية التثقيف المذهبي والفئوي. وأظهر تخوفه من استبدال الاستراتيجية الدولية القاضية بالسيطرة المباشرة باستراتيجية الصراع المذهبي الذي يصل بنا إلى مرحلة التدمير الذاتي الواسع النطاق لحساب "إسرائيل".

وسئل في ندوته الأسبوعية عن الموقف الإسلامي من العقود والعهود؛ فأجاب: تميز الإسلام بحرصه الشديد على رعاية العهود والمواثيق التي تقوم بين الجماعات، وأعطاها نوعا من القداسة الخاصة التي تعد معها بمثابة المقياس للتدين والإيمان، وقد قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" "المائدة: 1"، وقال في ذكر صفات المؤمنين: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" "المؤمنون: 8"، وحث المؤمنين على ألا يخلفوا بعهودهم وعقودهم: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا" "الإسراء: 34". ولهذا، رأينا أن النبي"ص" حث المؤمنين والمسلمين على وجوب الوفاء بالتزاماتهم العقدية، إذ قال"ص": "المؤمنون عند شروطهم"، ولم يجعل لذلك سوى قيد واحد وهو ألا يكون الشرط مخالفا لما شرعه الله، ولذلك جاء في تتمة الحديث: "... إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا". وتشمل الأهمية التي أعطاها الإسلام للعهود كل ما ينشأ من عقود بين الأفراد والجماعات والدول. فعلى مستوى الأفراد لابد للناس من أن يلتزموا بما يقوم بينهم من معاملات وعقود، ولا يجوز لهم نقضها أو التخلف عن القيام بمقتضاها، وحتى العلاقة الزوجية فإنها في نظر الإسلام، ومع كونها محكومة بعلاقة المودة والرحمة وتضمن السكينة النفسية والاجتماعية لطرفيها، فإنها تمثل في جانبها القانوني عقدا وميثاقا يلزم طرفيه بأداء الواجبات والحقوق التي نص عليها هذا الميثاق العقد تجاه الآخر، وقد عبر الله تعالى عن هذا العقد بأنه ميثاق غليظ: "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذنا منكم ميثاقا غليظا" "النساء: 21".

وتابع: ويدرج ضمن العهود التي يجب الوفاء بها إعطاء الدول تأشيرة الدخول إليها لرعايا الدول الأخرى، فإن ذلك يمثل عقدا مع الشخص الذي منح هذه التأشيرة، وبالتالي يجب عليه الوفاء بمقتضى هذا العهد والالتزام بمضمونه، ولذلك قلنا دائما إن على المسلم الذي يمنح تأشيرة دخول إلى دول الاغتراب أن يعمل بمقتضى العقد ليكون ضيفا طيبا في هذه البلاد فلا يسيء إلى أهلها، ولا يعمل على الاعتداء عليهم أو يخالف النظام العام في تلك البلاد بما في ذلك نظام المرور والاتصالات والمواصلات وغيرها، ولا يتحرك في الجانب الأمني بما يؤسس لعدوان مباشر أو غير مباشر على الأمن الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لهذه البلدان. كما يندرج ضمن هذه العقود العقد الاجتماعي الذي يتأسس بين مجموعات مختلفة يعمل على انتظامها في إطار اجتماعي وسياسي معين.

وقال: وهناك عقد آخر لا تقل الخطورة في نكثه عن العقود الأخرى، وهو ما يتصل بعلاقة القائمين على الأنظمة بشعوبهم، لأن واحدة من أعظم المسئوليات تتمثل في التزام الحاكمين بالنظام والعمل على أساس العدل ورفض الظلم. وهناك عقود أخرى يتعين على رؤساء الأحزاب والحركات الالتزام بها تجاه محازبيهم في مسألة المشاركة الحقيقية وحفظ حقوقهم في الاختلاف أو في إبداء الرأي وما إلى ذلك. وينطبق الأمر نفسه على العلماء الذين عليهم حفظ عقودهم والوفاء بأماناتهم تجاه الأمة وأجيالها في أن يعملوا لعزتها ووحدتها، وأن يتحركوا في خط العدل، وإن كلفهم ذلك الكثير من المعاناة والاضطهاد والملاحقة. وفي المقابل فإن على غير المسلمين الذين يدخلون بلاد المسلمين أن يحترموا قانون البلاد الإسلامية، ولا يستغلوا وجودهم فيها للتجسس عليها بهدف اختراق أمنها ونسيجها الداخلي، أو سرقة خيراتها ونهب ثرواتها وآثارها وما إلى ذلك. وماداموا ملتزمين بقانون الدول والبلاد الإسلامية فيجب على المسلمين أن يحفظوا ذمتهم ولا يعرضوا لهم بسوء، بل أن يعملوا على اجتذابهم إلى الإسلام من خلال السعي إلى معاملتهم معاملة طيبة وإدارة الحوار معهم في الأمور السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها بالتي هي أحسن.

وأضاف: وأما على مستوى العلاقات بين الدول، فإن الإسلام يحترم كل المواثيق والعهود الدولية التي تتحرك لحفظ مصلحة الإنسان وحمايته من الظلم والطغيان، وتنتصر للمظلوم وترتكز على أساس العدل واحترام إنسانية الإنسان، وقد أشاد الرسول الأكرم "ص" بحلف جاهلي، لأنه انطلق على أساس حماية المظلوم وهو حلف الفضول الذي قال فيه"ص": "لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت". ولكن كما أننا نريد لأنفسنا ولمجتمعنا ولدولنا أن تحترم هذه المواثيق وما شابهها، فإننا نريد من الآخرين أيضا ألا يخرجوا عن مقتضيات الالتزام بالعهود معنا، سواء أكانت هذه العهود قد جرى إمضاؤها مع الجاليات العربية والإسلامية التي تعيش فيها، أم مع الدول العربية والإسلامية بشكل عام، لأن نكثهم للعهود سيكون مدعاة للمقابلة بالمثل وفق القاعدة القرآنية: "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" "التوبة: 7".

وأردف: ولكن المأساة تتمثل في أن هذا العالم لا تحكمه المواثيق والعهود بقدر ما تحكمه موازين القوى، فالقوي يصنع القانون ليوجه الحركة السياسية والاقتصادية على قياس مصالحه، ويعمل في كثير من الأحيان لتجاوز القوانين التي كانت من وضعه أو بوحي منه إذا كفت عن أن تخدم مصالحه وأطماعه. وهذا ما تجلى في صورة واضحة في كل الانقلابات التي صنعتها وكالة الاستخبارات المركزية في بلادنا وفي كل الدكتاتوريات التي صاغتها لحساب أهدافها ومصالحها، كما تجلى في الحرب على العراق التي جعلت فيها الأمم المتحدة بمثابة الأداة، ثم عملت الإدارة لأميركية على تجاوز الأمم المتحدة نفسها وفق قواعد قانونية ملتوية "فبركها" العقل السياسي الأميركي الذي نقل المنطقة والعالم إلى مرحلة العنف والتدمير التي نعيشها في هذه الأيام من خلال جشعه وعلى أساس الاستراتيجية التي أسسها لها سابقا.

وخلص إلى القول: لقد أصبح القانون الدولي بمثابة "الشماعة" التي تستند إليها كل الممارسات التدميرية والإرهابية، وباتت الدول الأكثر التزاما بالعمل وفق قواعده هي التي تتهم بالمروق والخروج عليه، بينما يفسح في المجال لـ "إسرائيل" وغيرها أن تعبث به كما تشاء وأن تخترقه في كل يوم، لا من حيث استمرار احتلالها فحسب، بل من خلال إسقاطها لكل قرارات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وإعلانها المستمر توسعة المستوطنات، إذ إننا لم نسمع صوتا واحدا يرد على شارون الذي تحدث عن توسعة المستوطنات في الضفة الغربية والبقاء هناك إلى الأبد!. ولذلك، فنحن نرى أن القانون الدولي أصبح رهينة بيد أميركا و"إسرائيل"، وبات إرهاب القانون هو الذي يصنع إرهاب الواقع في كثير من المواقع، وبتنا نشهد عالما تحكمه "إسرائيل" في شكل مباشر أو غير مباشر، الأمر الذي جعل المنطقة تعيش حالا من جنون العنف الذي صنعه التسلط الدولي على العرب والمسلمين، أو صنعه صمت المحاور الدولية حيال الإجرام الإسرائيلي الذي لا يقابل إلا بامتداح أفعال شارون عند كل محطة استعراضية وكل مسرحية إعلامية، كما جرى التعامل مع الانسحاب من غزة حديثا.

وختم: إننا وفي ظل استمرار هذا الظلم العالمي في التعامل مع قضايانا نخشى من أن يعمل القوم لتركيز "إسرائيل" في احتلالها وإرهابها حتى وإن وصل الأمر إلى إشعال المنطقة كلها على أساس أن الأمن الإسرائيلي يقتضي ذلك، وأن المسألة إذا استدعت تغيير الاستراتيجية بعد استحالة السيطرة المباشرة فيمكن اعتماد استراتيجية جديدة عنوانها الصراع المذهبي لنصل إلى مرحلة التدمير الذاتي الواسع النطاق لحساب "إسرائيل". ولذلك فإنني أخشى أن يستعاض في مراحل لاحقة عن عناوين نزع الأسلحة لمصلحة عناوين جديدة من بينها تحريك السلاح في الفتن الداخلية وفي ظل عملية التثقيف المذهبي والفئوي التي أستغرب أن يؤدي فيها الإعلام العربي دورا لا يوحي بالالتزام بمسئولية حماية الأمة وصونها من الداخل. أيها الناس، أيها المسئولون، أيها العلماء، اتقوا الله في كلماتكم ومواقفكم وسارعوا إلى حماية أرضنا الوطنية والعربية والإسلامية ونزع الألغام التي تزرعها أميركا و"إسرائيل" فيها قبل أن تضيع القضية في تفاصيل سياسة المحاصصة التي نظل نتقاتل عليها على مدى القرون والعقود ولا نحصل منها إلا على الفتات والتجزئة والضياع.

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 1092 - الخميس 01 سبتمبر 2005م الموافق 27 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً