التلويح بدبلوماسية القوة هو ما تتبعه واشنطن في الخليج ومحيطه والمنطقة العربية بديلا عن النهج الصحيح في العلاقات الدولية التي تستخدم الدبلوماسية في فض النزاعات وقبل أن تصل إلى مرحلة استخدام القوة، وهو ما نراه باديا للعيان في إقليم الخليج المضطرب.
فالمنطقة تعيش حالا من الغليان السياسي، فالكل يهدد ويتهدد أيضا، إلا أن المخطط الأميركي المدعوم صهيونيا، يتجه نحو التصعيد بعد تعثر خطواته في العراق وفي فلسطين وما يبدو من غضبه على إيران، وحين يتعثر الكبير بعد أن تفرد بالأحادية القطبية، يتجه نحو تحميل الصغار مسئولية فشله، تارة بالانتقام وطورا باستدراج الخصوم نحو مواجهة غير متوازنة في معادلات القوة، ولذلك تسعى واشنطن بجد كما يبدو إلى التخطيط لكسر الحلقة المفرغة التي وجدت نفسها فيها بعد احتلالها العراق، وترغب من كسر تلك الحلقة فتح المعادلة على آفاق أوسع حتى تنجح في احتواء وضعها المتأزم داخليا بعد أن شاهد المواطن الأميركي كثرة القتلى بين جنوده، وبات حلفاء واشنطن يتخلون عن دعم بعض سياساتها كما هو الحال بين الدول الأوروبية، التي لم تعد تخشى انتقاد السياسة الأميركية في العراق وأحيانا في فلسطين وحديثا بسبب إيران التي لوحت واشنطن باستخدام القوة لإخضاعها وعارضها في ذلك المستشار الألماني كول، وربما يتبعه آخرون.
لقد كانت أهداف ومصالح واشنطن معروفة ومعلنة تجاه المنطقة في العقود السابقة، فهي كانت تسعى إلى السيطرة على النفط وضمان تدفقه لها ولحلفائها ومعها إمدادات الأسواق العالمية، كما سعت أيضا إلى الحصول على حصة الأسد من العائدات النفطية على شكل استثمارات أو مشتريات أسلحة، فالنفط هو السبب في جذب أميركا للمنطقة، غير أنه بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول الأليمة طورت واشنطن خططا جديدة تجاوزت فيها النفط، ودخلت في مزاج انتقامي أعده اليمين الصهيوني المتطرف في الإدارة الأميركية ضد جميع دول المنطقة وخصوصا الكبيرة منها، كالعراق وإيران والسعودية، فهي تتحدث الآن عن الحاجة إلى تغيير الحكومات وبدأت هذه المهمة في العراق، كما تسعى أيضا إلى تغيير القناعات وربما إعادة هندسة خرائط المنطقة.
وشهد العامان الأخيران تدخلا أميركيا سافرا في شئون دول المنطقة من خلال الضغط على حكوماتها لإجراء تعديلات في مجالات عدة، تحت ذريعة ما يسمى بمحاربة الإرهاب، وكانت العربية السعودية أكثر دول المنطقة تعرضا لمثل تلك الضغوط نظرا إلى مكانتها وثقلها الديني والسياسي والنفطي، ولم تسلم الكويت أيضا من الإيعازات الأميركية فيما يتعلق بحق المرأة السياسي في الترشح والانتخاب في مجلس الأمة.
أما جريمتها القديمة المتجددة فهي توفيرها الغطاء السياسي لدولة الصهاينة المعتدين وتسويغها المستمر لمخالفات الاحتلال وخرقه قواعد الشرعية الدولية بشكل كامل طالما تشابكت معه وفيه المصالح الأميركية والصهيونية، وأخذ جيش الاحتلال معه استباحة الأراضي الفلسطينية وشعبها حتى لم يبق على زرعها أو مائها وقبل ذلك تشريد أهلها، ومع ذلك بدأ المواطن الفلسطيني يشعر بالأمل بعد انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة حديثا حتى وإن كان من جانب واحد من دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية. فالحقيقة أن الانسحاب جاء بفعل تواصل اشتداد نضال الشعب الفلسطيني التحرري بهدف إقامة دولته المستقلة على أرضه وبين أبناء شعبه وكذلك بفضل ضغوط واشنطن التي تعمل على إعادة تشكيل خريطة المنطقة الآن فضلا عن احتمال أن يكون ذلك تمهيدا لإشاحة الأنظار عن الاتجاه المتزايد لتصعيد التوتر مع إيران في المرحلة المقبلة.
أما لبنان فهو مثل سابقاته من الدول العربية لم يسلم من التدخلات الأميركية لفائدة الكيان المحتل تارة وأخرى من خلال مجلس الأمن حتى فصلت واشنطن على مقاسه القرار الدولي 1559 لتضع لبنان في مواجهة مع المنظمة الدولية لفائدة الكيان الصهيوني، وغير بعيد عنه ما يجري من ابتزاز سورية الآن لجهة كيفية تعاطيها مع لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
ومن تتبع المجرى للتحركات الدبلوماسية العنيفة في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي يستنتج أن الهدف هو استدراج قوى في المنطقة إلى مواجهة ساخنة قد تبدأ محدودة ولكن احتمالات اتساع نطاقها ممكن، وفي حال أخطأ أحد الخصوم حساباته العملية فإن كل شيء وارد وتكون الحسابات الميدانية قد خالفت في هذه الحال الخطط السياسية على الورق، ولا يغيب عن المشهد السياسي الحال الصهيونية. فشارون في أزمة بعد انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، وما نتج عن ذلك من انقسام في أوساط مجتمع الكيان المحتل واستقالة بعض حلفائه من حكومة الائتلاف الليكودية، ولذلك فشارون يركز على استفادة تل أبيب من الوجود الأميركي في المنطقة والعراق "150 ألف جندي" بسرعة وإلى أقصى حد. وأحد خياراته هو تكسير قوى المنطقة العربية بالجيوش الأميركية المتفوقة والمتحفزة، والمشاركة في تصعيد استعداء الأميركان ضد إيران من زاوية مراقبة برنامجها النووي وبذلك يتحقق لرئيس الوزراء الصهيوني "من يقاتل عنه بغير سيفه" حتى يتفرد بقراراته ويصبح القوة الإقليمية الوحيدة التي تستطيع فرض شروطها على الدول العربية.
هذا ما تخطط له كتلة الشر بالتعاون مع اليمين الأميركي المتصهين في واشنطن، إلا أن وقائع هذه الخطط ليس من السهل تطبيقها بحذافيرها وتوسيع دائرتها من دون دفع ثمنها "ما يجري في العراق"، فالولايات المتحدة ربما تستطيع الفوز في معركة عسكرية لكن تحقيق الانتصار ليس مؤكدا بل إنه محفوف بالمخاطر. وقد تبرز خلال فترة وجيزة حقيقة وهي أن منطقة الخليج أصبحت من أكثر الأقاليم توترا لما تشهده من حوادث وتطورات، وخصوصا إذا تذكرنا أن فيها وحولها وقعت أربعة حروب مدمرة وجميعها كانت بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وربما يغري ارتفاع أسعار النفط وبلوغه مستويات قياسية الآن "67 دولارا" كارتلات رأس المال المتوحش المنتج للأسلحة والنفط بإعادة الكرة لاستنزاف الفوائد النفطية، وبذلك تتحقق فوضى سياسية لا نعرف نهايتها، علما بأن بعض حروب الولايات المتحدة التي بدأتها في أفغانستان والعراق لم تنته بعد، ولا يستطيع مواطنو دول مجلس التعاون الخليجي نسيان أنه منذ 11 سبتمبر 2001 أصبحوا من أكثر رعايا دول العالم عرضة للشبهة في الخارج، ولاسيما في الولايات المتحدة التي فرضت ضوابط وقيودا مشددة على الراغبين في السفر إليها من أبناء المنطقة.
ولكي يتحقق الأمن في الخليج فإن على الولايات المتحدة إنهاء احتلالها للعراق وتهيئة العراقيين لتسلم زمام الأمور في بلادهم، فقد أصبح وجودها هو المشكلة وليس الحل، وإشراك الأمم المتحدة والشرعية الدولية في إعادة تأهيله سياسيا وهيكلة بناه الاقتصادية والاجتماعية اعتمادا على ذخيرة حضارية وثقافية وبشرية يمتلكها العراق الشقيق ويستطيع بها أن يتبوأ موقعا متقدما في المشاركة بتقرير سياسات المنطقة كما كان سابقا، كما أن على دول الجوار العراقي الكف عن إدارة صراعاتها مع الولايات المتحدة على أرضه ومن دماء أبنائه. وللقارة القديمة أوروبا مهمة عدم ترك الساحة منفردة للقرار الأميركي وأن تؤدي دورا متوازنا في الخليج والقضايا العربية أيضا، وهذا هو المؤمل من الدول الأوروبية، فرنسا وألمانيا وبريطانيا كما عملت في الاتفاق النووي الأوروبي الإيراني قبل أشهر وإن لم يكتب له النجاح كاملا، ومن جهة أخرى فإن على دول مجلس التعاون تشجيع الأوروبيين على الاستمرار في القيام بهذا الدور حتى لا تستفرد بهم واشنطن بسياساتها التي ترى في دول المنطقة ساحة مفتوحة لها ولمصلحة الكيان الصهيوني وتوسيع دائرة نفوذه.
وفي البعيد أو القريب، وعلى رغم كل هذا التشتت في القوى والتباعد في السياسات، فإن أميركا والعالم اليوم كما يؤكد الباحث الاقتصادي البحريني محمد الصياد، بأمس الحاجة إلى رئيس أميركي يتميز برجاحة العقل ويعرف كيف يزن الأمور بميزان واحد، ذي طبيعة سلمية وإنسانية، لا بموازين مزدوجة المعايير لا يملك غير التلويح بشن الحروب المدمرة على الشعوب. وهذا الأمل يتفق فيه مع الباحث كل الذين ينشدون مجتمع السلم والعدالة، وعلى رغم إدراكنا أن عقبات كثيرة تحول دون تحققه فإننا نوقن أن الخيارات العسكرية في المنطقة تم تجريبها ولم تفلح في تحقيق شيء، وليس على واشنطن ولا حلفائها تكرارها، فلم تنتج عنها غير الكوارث.
* النائب الأول لرئيس مجلس النواب - البحرين
العدد 1089 - الإثنين 29 أغسطس 2005م الموافق 24 رجب 1426هـ