العدد 1088 - الأحد 28 أغسطس 2005م الموافق 23 رجب 1426هـ

نقد على طريق الإصلاح والمخرج

العراق الشقيق... وإشكال التضارب والاضطراب...

علي أحمد يوسف comments [at] alwasatnews.com

-

هناك كتابات تنحو - مع الأسف - منحى سلبيا عند تناول الموضوعات الحساسة المتعلقة بقضايا الأمة، وذلك بزيادة تعقيدها بأكثر من النحو بها في اتجاه الإصلاح بما يختزله الإصلاح من عمق القيمة الرسالية والإنسانية على حد سواء، ناهيك عن قتل الأمل في النفوس وزيادة الإحباط العام، كان ذلك بقصد أو من دونه، وبوعي أو بغيره، مما لا يخفى على المتابعين لمجمل ما يقال وينشر عبر الوسائل المقروءة والمرئية والمسموعة. فقليل هي الكتابات والخطابات الهادفة التي تبحث عن الحل الجدي وتمارس دور التكامل والبناء. وهذا بطبيعته يفصح وبشكل جلي في مدلوله التصديقي عن لون من ألوان "التضارب والاضطراب" في النظرة والمنهج بما يدل على البساطة السياسية والتخبط العشوائي، والسلبية في الموقف. وكم كبير جدا من هذه التفاعلات إنما هي ردود أفعال للاستهلاك فقط، ولا ترقى إلى مستوى الطموح الذي يزن رد الفعل بدقة ووفق معايير معينة، ليقع في موضعه الذي ينبغي. وهذا لا يتأتى إلا من خلال العلم التحصيلي بالأهداف الاستراتيجية الثابتة لسائر أبناء الأمة ومن خلال المشروع الواضح إلى جانب المنهجية المحددة. وفي نظري فإن الهدف هو الإصلاح السياسي والمدني، والمشروع هو آليات بناء الإنسان، والمنهجية هي قبول الآخر والتعايش في ظل ذلك المشروع، وأي تصور مقبول لأي مشروع - في ذاته - بحاجة إلى مشروع آخر للترويج والإقناع، ولا مجال للتفصيل أكثر. وخلاصة القول إنه إذا بقي هذا الإطار مجهولا أو غير محدد للمجموع خصوصا لدى النخب فإن كثيرا من المساهمات تصير هباء منبثا كالذي يرمي في غير مرمى، أو كالذي يسير في الصحراء على غير هدى.

ومع تقديري لما يدلى به في الإعلام من خواطر فان عدم ممارسة عملية المقاربة والناقد الموضوعي لما يكتب ويقال يعد في حق قائليه وحق غيرهم ظلما وتقصيرا وإخلالا يؤدي بنا إلى الجمود والتخلف ويزيد في إشكال التضارب. وخذ - على سبيل المثال لا الحصر - "التضارب في الكتابة". فبشأن مسألة "الفيدرالية" المقترحة في العراق على أثر كتابة مسودة الدستور وما جرى بشأنها من جدل كبير، كتب محمد الرميحي، وهو كاتب كويتي، مقالا بعنوان "المخاض المتعسر لولادة الدستور العراقي والمستقبل" ونشرته "الوسط" في عددها "1075" يرفض فيه الكاتب المحترم "الفيدرالية" ويتناوله بأدوات طائفية بحتة تفتقد الدقة والموضوعية والهدفية، فيصور الفيدرالية بأنها أمر يوحي بالخطر، وأنا المناداة بها يدل على زيف شعارات الحكومة الحالية التي وصف شعاراتها الديمقراطية بـ "المقبلات" وأن التأكيد على موضوع الفيدرالية يؤكد ما أثير سابقا من مخاوف من "الهلال الشيعي"، وأن الفيدرالية تقسيم من أجل الثروة والسلطة. وهكذا أخذ كاتبنا يثير حفيظة السنة قائلا: "في هذا المقام يبدو أن الخاسر هم أهل السنة، لأنهم في بيئة جغرافية تفتقد كلا من الماء والنفط"، وأن القيادة العراقية اليوم هي "قيادة فئوية"... ثم التحسس من الاعتراف باللغة الفارسية في الدستور العراقي. وما الى ذلك من إثارات غريبة جدا... انه كاتب مرموق وله كامل الحق في أن يعبر عن رأيه، ولكن طريقة تناوله من حيث الدقة والهدف لا تخلو في الأمر والواقع من إشكال وتضارب واضطراب، إذ تعجل في فهم مقترح "الفيدرالية" ولم يعرض للآراء فيها وفي أهدافها وضوابطها، فتناول العجينة سريعا قبل أن تتحول قرصا طازجا. وقد كان مبناه في النقد على أساس فهم خاطئ للمقصود منها وما ترمي إليه في إطار الحقوق العامة في الدستور، وصورها وكأن الثروة في كل قسم فيدرالي ستكون حكرا على أهل ذلك القسم لا يشاركهم فيها غيرهم! فلم يتأن ولم يتحر. بل انطلق من فهم بسيط للشعب العراقي، لأن شرفاء العراق أسمى مما ذهب إليه، ثم الحكم على نوايا القيادة الحالية واتهامها بالفئوية وهي التي حرصت على إشراك التيارات والطوائف كافة على رغم مقاطعتها. ثم تصويره وكأن الشيعة في العراق شبح مخيف جائع هدفه الأكبر السلطة والثروة و سيبتلع العراق على حساب إخوانه وأحبته من أهل السنة. هذا خطاب سلبي لا يخدم العراق ولا مشروع الأمة ولا أظن أن العراقيين يستسيغونه؛ لأن هذا المنطق يتنافى وثوابتهم. ولا أطيل فالكتابات والمقابلات السلبية ما أكثرها وهذا مجرد مثال وهو غيض من فيض.

وكيف كان - وفي إطار المشروع ولو في وجوده الذهني البسيط - لا شك أن فرادى جمهور الأمة وجماعاتها الفاعلة والمخلصة تأمل - كما تأمل لسائر بلدان الأمة - في أن يعيش أبناء الشعب العراقي الأمن والاستقرار، في ظل نظام "ديمقراطي إسلامي" يحترم حقوق الشعب العامة من دون تمييز. غير أن تحقق أية أمنية مرهون بتوافر الظروف الموضوعية لها والشروط اللازمة لتحققها في الخارج. ذلك أن التفكير الموضوعي في مخارج القضية عادة ما يستلزم المعرفة اللازمة بمداخلها الحقيقية.

ومداخل القضية - موضوع الكلام - هي جملة التحديات والعقبات التي تحول دون تحقق الموضوع أي "الأمل". وفي تقديري تأتي في مستهل أبرز وأكبر تلك التحديات في شأن العراق الكبير "إشكال التضارب والاضطراب" وهو إشكال بتعليق في الأساس بالأمة ككل بما تشتمل عليه من مؤسسات دينية وفكرية شعبية وأنظمة سياسية ونخب مختلفة، ولا يتعلق بالعنصر الأجنبي إلا بقدر يسير؛ إذ لسنا مع النظرية القائلة إن المشكل في الخارج، وان الإصلاح يكون بمواجهة ذلك الخارجي. كلا، فالإصلاح يبدأ من الداخل؛ لأن الخلل ظاهر فيه، وهذا هو الواقع، وهذه هي نظرية القرآن الكريم أيضا، "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" "الرعد: 11". وربما نلتقي في هذه الرؤية مع القول المنسوب لأمير المؤمنين علي عليه وعلى نبينا وأصحابه السلام:

دواؤك فيك وما تشعر

وداؤك منك وما تبصر

وتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

إن إشكال التضارب والاضطراب يمكن تصورها في جانبين حيويين يتعذر فصل أحدهما عن الآخر كتعذر ظهور الحركات على الألف اللينة، أو كتعذر فصل الحرارة عن النار: جانب فكري، وآخر سلوكي .

وتوضيح ذلك: أنه متى ما حصل تضارب في الجانب الفكري "الرؤية" أدى بالضرورة إلى اضطراب في السلوك والموقف على مستوى القول أو الفعل.

وهذا الإشكال يمكن رؤيته حقيقة في القضية العراقية بشكل جلي وذلك عبر الصور الواقعية الآتية:

الأولى: في التضارب الذهني في التكليف الشرعي أو الوطني من الاحتلال. بين من يرى المقاومة السياسية أولا، وبين من يرى المقاومة المسلحة أولا. وبديهي أن يؤدي ذلك إلى اضطراب خطير في الموقف العملي والى إرباك شديد في الساحة إلى درجة أنه وصل إلى حد الإفراط.

الثاني: التضارب في القيمة الإنسانية، بين من يعتبر صدام مجرما ويطالب بمحاكمته، وبين من يعتبره رمزا عربيا يجب احترامه والدفاع عنه! وبين من يكرهه ويتهمه وبين من يقدسه ويتباكى عليه... وهذا أمر سيان على مستوى الداخل والخارج. وقد رأينا كيف كان الدفاع في الإعلام عن صدام وكيف وكل محامون له. وهذا "تضاد قيمي خطير" شذوذ قيمي يدخل تحت عنوان التعصب المذموم جدا لاسيما في القرآن والسنة والأديان الأخرى.

الثالث: التضارب في المنهجية والهدف، ونعني بالمنهجية باختصار: مجموعة الأفكار التي يؤمن بها الفرد أو الجماعة وتحدد نمط السلوك الوظيفي الذي يجب عليه سلوكه مع الآخرين. ويدفعه إما إيجابا في اتجاه التوليف، واما سلبا في اتجاه التشطير أو أي نوع آخر منه. والحقيقة أن كل شخص - مسلما كان أو غيره شاء أم أبى - له طبيعة ذهنية معينة تحدد منهجيته إما إلى هذا أو إلى ذاك، وربما ضاق العموم بحصره فيمن يؤمنون بالمبادئ... وهذا ما بحثته ضمن دراسة خاصة مفصلة، أثبت فيها بالقرآن أصالة المنهجية التوحيدية التوليفية وأن التشطيرية بطبيعتها وخصائصها وأشكالها تتعارض معه بشكل قاطع لا جدال فيه.

والمعروف أن في العراق تيارات دخيلة تتبنى "المنهج التشطيري في أقصى درجاته"، الذي يستهدف استئصال الآخر استنادا إلى فتاوى التكفير الجهنمية، وطبيعي أنها تتضارب مع التيار الديني الأصيل الذي يتعايش مع الآخر استناد للمنهج التوليفي في إطار الحقوق العامة والمبادئ المشتركة. وطبيعي أن التيارات الدخيلة تستعين بعناصر النظام الفاسد البائد لوجود الجامع في كل منهما من حيث صعوبة القبول بالآخر والتعايش معه، ولغة السفك، والحاجة إلى الناصر. وطبيعي أن هذا التحالف سيعادي كل من لا يتبنى رؤيته وموقفه، ويضعه على قائمة الكفر والخيانة، وهو الحاصل والمشهور من التهديد بالقتل لمن يشارك في الانتخاب أو التصويت! وعليه فإن "أصحاب الرؤية الوسطية والمقاومة السياسية" سيجدون أنفسهم مضطرين - بالإضافة إلى مقاومتهم السياسية وحرصهم على مشروعهم الوطني - إلى مقاومة أخرى مسلحة ضد هذا الفيروس الإرهابي القاتل.

وبناء على الواقع المليء بهذا اللون من التضارب، كيف يمكن للعراقيين الخروج من محنتهم؟

العراقيون حين اختاروا الأسلوب السياسي في معالجة الأزمة كانوا أذكياء وعقلاء، و"قوام المرء عقله ولا دين لمن لا عقل له"، ذلك بلحاظ مجموع التضاربات السالفة، ولحاظ نوع النظام السابق، ونوع الغزو وظرفه، وحال الشعب وظروفه؛ فوضع العراقيين أكثر من المعقد لأنهم يواجهون ثلاث جبهات: الاحتلال الأجنبي، والتحالف الإرهابي، و"الجبهة الإعلامية" في الخطابات والإثارات المتهافتة، المنبعثة من الخارج من الفضاء العربي ضد المشروع الوطني الذي صوت الشعب لصالحه بقوة وفي أجواء الخطر.

وباختصار، فما لا شك فيه أن العراق يصعب عليه الخروج من هذا المأزق من دون إيجاد حل لمثل هذا التضارب، وعلى الأقل التضارب في صورته الأولى. فإما مقاومة سياسية كما عليه رأي الغالبية من علية القوم من ذوي العلم والتجربة، وإما مقاومة مسلحة وهو الخيار الثانوي، ولا يستقيم الحال على موقفين أو أكثر بصفة مستمرة. وأقول بـ "صفة مستمرة" - وهذه نقطة مهمة - نظرا إلى أن خيار المقاومة السياسية أثبت نجاحه بانتخاب الجمعية الوطنية وتشكيل الحكومة المؤقتة وإعداد مسودة الدستور الجارية وادارة البلد واحلال الأيدي العراقية تدريجيا محل الأجنبية. فما الحاجة إلى مقاومة مسلحة إذا كان العراقيون لا يعدمون وسيلة أن يقولوا جميعا وبملء الفم ومن أعلى المستويات والمؤسسات الشعبية وفي الوقت المناسب "فلتخرج القوات الأجنبية من بلادنا الآن".

في تصوري أن خيارا آخر في قبال الخيار العام للجمهور "وفي هذه المرحلة بالذات" يعد خطأ كبيرا من جميع النواحي. ويجدر بنا ألا نفهم أننا نذم الخيار المسلح مطلقا، بل نذمه من حيث ما يؤدي إليه من تضارب واضطراب وعبث، وإلا فإنه في نظري البسيط لم يكن شرا محضا ولا هو خير محض، بل هو خير في مرحلة وشر في مرحلة أخرى. فقد كان خيرا في مرحلة بول بريمر وقبل انتخاب الجمعية الوطنية وتشكيل الحكومة؛ لأن المقاومة المسلحة النزيهة والمؤيدة من "هيئة علماء المسلمين" من المرجح أنها دفعت نحو تحقيق مكاسب سياسية في هذه المرحلة الحرجة، بيد أنها في المرحلة الراهنة لا معنى لها؛ وخصوصا بعد التقدم الذي حققه خيار الجمهور، وما يؤدي إليه الخيار المسلح من التزاحم والتضارب والخلل في النظام العام كما بيناه في الصورة الثالثة. ثم ان لغة السلاح ليست قيمة جهادية بالمطلق وفي أي وقت من دون حساب أو تقدير، وانما هي وسيلة لغاية محددة كما هو معلوم.

وليس مستبعدا أن في الخفاء أيدي معادية لكل العراقيين بل للكيان العربي الإسلامي عموما، تستهدف أي أنموذج جديد يتشكل يمكن أن يمد هذا الكيان بالقوة التي تجعله قادرا على لعب دور حضاري وعالمي في المستقبل.

وهكذا فمما تقدم يمكن لنا أن نستخلص ما يأتي:

1- إن كثيرا من الكتابات ونحوها تساهم في التأزيم ولا تساهم في الإصلاح؛ فتحدث تضاربا واضطرابا عاما قد لا نشعر بخطورته مباشرة، وأنه لابد من تحريك آليات النقد الموضوعي في ظل الرؤية والمعيار الواضح لتقليل حدوث مثل هذا التضارب.

2- إن للاضطراب الذي تعاني منه أمتنا اليوم والعراق خصوصا عوامل مختلفة من التضارب ينبغي الالتفات إليها ودراستها بجدية من جميع المؤسسات الرسمية والشعبية لتفادي خطرها على الكيان كله حاضرا ومستقبلا.

3- إن التضارب والاضطراب الحاصل يعود في الأساس إلى افتقاد الوحدة المعرفية والمنهجية وفي ظل غياب المشروع الواضح الذي من شأنه أن يرشد مخاضات الأمة وأفعالها ومواقفها، وأن دائرة الاضطراب نحن - العرب والمسلمين في داخل العراق وخارجه - من يمكنه توسعتها وتضييقها، وأنها تتسع كلما انعدم التواصل والحوار وازدادت الشكوك والظنون، وتعمق الشعور بالطائفية والكراهية، ولم يكن ثمة مشروع نموذجي واضح يمكن لشعوب الأمة التعايش والتعاون في ظله. وهي أمة لها خصوصياتها وإمكاناتها، ولا يمكن تحرك بعض أجزائها على حساب الأجزاء الأخرى.

وهي من جهة أخرى تضيق كلما احترمنا الديمقراطية والشورى والتجارب الحضارية، والمثل الاسلامية العليا كالعدل والإحسان والعقل والعلم والأخلاق الكريمة والتعارف والتعاون واحترام الرأي الآخر وغيرها... وحق الجميع في المشاركة والبناء.

وسيبقى العراق نموذجا راقيا، ووطنا عربيا وإسلاميا، نعتز به جميعا ونفتخر، ونستفيد من خبراته وتجاربه في توطيد الأمن والسلام والديمقراطية، ونأمل أن يوفق في أن يقدم لعالمه العربي والإسلامي وللعالم مثالا رائعا في التعايش والإدارة والأمن والتنمية والاقتصاد، وأن يقدموا له ما عندهم، فهذا هو الواجب، وأن يعم التطور والخير سائر بلداننا العزيزة.

* كاتب بحريني

العدد 1088 - الأحد 28 أغسطس 2005م الموافق 23 رجب 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً